كتاب عربي 21

صحف لبنان نحو هجرة المطابع

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600
يحرص الزملاء العاملون في كبريات الصحف اللبنانية، "النهار" و"السفير" و"اللواء"، على تفقد صفحاتهم البريدية الإلكترونية عدة مرات في اليوم، للاطمئنان إلى عدم ورودهم تعميما من إدارة الصحيفة يعلن التوقف عن الصدور ورقيا والاستمرار إلكترونيا فقط تحت وطأة أزمات مالية، ذلك أن إشارات عدة تشي بإمكان بلوغ هذه النتيجة، علما أن تحول الصحف إلى إلكترونية بالكامل لا يعني تهجير الصحفيين بالضرورة، بل يؤثر بالدرجة الأولى على قطاعات الطباعة والتوزيع.

"اللواء" فتحت باب الاستقالة أمام موظفيها، و"النهار" تتأخر عن دفع الرواتب لأشهر خلت، فيما كانت إدارة "السفير" أكثر وضوحا مع صحفييها حين طرحت أمامهم جميع الاحتمالات للنقاش بما فيها التوقف عن الصدور، وشكَتْ في كتاب مقتضب الظروف الصعبة والتحديات التي تمر بها.

ليست المرة الأولى التي تعاني فيها صحف لبنان من ضائقة مالية، لكنها ساعة جدّية وصل إليها مالكو الصحف ومِن خلفهم المموِّلون في الداخل والخارج لطرح سؤال واضح على أنفسهم في غرفهم المغلقة: كم عَدد ما يُباع من الصحيفة الورقية في اليوم؟ وفي المقابل كم زائرا يوميا يتردد إلى موقعها الإلكتروني؟ وهل انتظار الساعات الأربع والعشرين لإصدار الصحيفة كل يوم يتيح لها البقاء والمنافسة في زمن الإصدارات اللحظية في المواقع الإلكترونية التي لا يقف حائل دون تجديد صفحاتها متى تشاء، وبكل ما تشاء من مواد مطبوعة وصوَرية وفيلمِيّة؟

لا شك أن الفارق هائل بين نسبتَي استهلاك المنتجَين الورقي والإلكتروني لصالح الأخير، ولا شك في أن الصحفيين أنفسهم باتوا يعتمدون لاستِقاء معلومات أبحاثهم وإجراء مقابلاتهم ومواكبة الأخبار على شبكة الإنترنت، وهم بذلك على مثال قرائهم الذين يستسهلون أيضا الحصول على المعلومة والرأي والموقف والصورة والفيديو، من آلاف المصادر التي تنقر شاشات هواتفهم الذكية كل لحظة دون أي جهد أو كلفة إضافية، وباستخدام إصبع واحد بدل العشرة الذين يتطلبهم تصفح جريدة الورق التي تترك في الغالب شيئا من حِبرها على يدَي حاملها.

إذن، بعيدا عن أزمة نقص المال العالمية، يبدو أن بعض الصحف اللبنانية قرر أن يحذو حذو صحف عملاقة في أمريكا وأوروبا ،هجرت المطبعة إلى الشبكة العنكبوتية بعد دراسات جدوى معمّقة، خلصت إلى أن الصحيفة الورقية باتت تخص جزءا محدودا جدا من النخبة، وهذا الجزء في الغالب ليس خارج العصر، والإنترنت وبالتالي لن تتم خسارته بوقف الطباعة، بل الربح أكيد لشرائح واسعة جديدة من القراء ومعظمها من فئة الشباب، الذين لم تستطع الصحف استهواءهم قبل اقتحامها يومياتهم الإلكترونية.

حسنا تفعل الصحف اللبنانية إذا تمكننت بالكامل حتى وإن كانت خطوة متأخرة، فهي منذ مدة طويلة يمنّ عليها عالم التلفزيون بتدعيم حضورها من خلال برامج الصحافة اليومية، والكثير من الجيل الجديد ما كان ليعرف أسماء الصحف لولا البرامج التلفزيونية، علما أن هبوطا اضطراريا إلى عالم الإنترنت نفذته وما تزال كبريات المحطات التلفزيونية العربية، التي أدركت أنها فقدت هي الأخرى الكثير من مشاهديها بسبب اختفائهم من أمام الشاشة الفضية وتمسمرهم أمام شاشاتهم الذكية، فحدّثت أقسام الإعلام الجديد لديها وحرصت على تزويد صفحات التواصل الاجتماعي يوميا بعشرات الفيديوهات والأخبار العاجلة، حتى إن شبكة "الجزيرة" أنشأت قناة موازية لها على الإنترنت تحت اسم AJ+ أي "الجزيرة زائد"، ولها تقاريرها الخاصة وبرامجها المتخصصة التي لا تتعدى مدة الحلقة منها خمس دقائق.

ما يزال صعبا على أصحاب الصحف اللبنانية، ومعظمهم من شيوخ العُمر، النطق بالحكم على مطبوعاتهم الورقية، ولو تُركَ الأمر لرغباتهم وتكريم إنجازاتهم، فلن يوقفوها لأنها جزء من وجوههم وأفئدتهم وذاكرتهم، لكن كُرمى لأبنائهم وأحفادهم ومستقبلهم المهني، سيعلنون غدا أو بعدَه مكننةً كاملة لصحفهم، التي لولا الإنترنت لما علمتُ أصلا أنها بصدد التوقف عن الطباعة الورقية.
التعليقات (0)