كتاب عربي 21

سماحة.. السيد.. ميشيل: فيلم كتير كبير

طارق أوشن
1300x600
1300x600
داخل مكتبه، يجلس ضابط المخابرات اللبناني إلى المحامي الفرنسي ماثيو مرمون في آخر مشهد ناطق من فيلم (بيروت بالليل)المنتج في العام 2011 لمخرجته دانيال عربيد.

ضابط المخابرات: سيد مرمون! لقد أغلق الملف ولن نبحث في اختفاء عباس طيار. الأبرياء هم من يدفعون الثمن دوما.

ماثيو: لأن عباس صار بريئا الآن؟

ضابط المخابرات: لا تنشغل بهذا. القضية انتهت. لم نجد شيئا مهما لا داخل سيارته ولا شقته. لقد أثار جعجعة بلا طحين.

ماثيو: هل اختفى لأنه لم يكن يعرف شيئا أم لأنه كان يعرف أكثر من اللازم ولا أحد قبل بسماع روايته؟
ضابط المخابرات :عليك بطرح هذا السؤال على سفارة بلدك. اسأل الملحق العسكري بها عن سبب إحجامه عن عقد صفقة مع عباس.  هل لأنه لم يكن يعرف شيئا أم لأنه كان يعرف أكثر من اللازم؟ قد يجيبك... أعرف ضابطا أمميا يشتغل بجنوب لبنان كتب على خلفية  مكتبه ما مفاده: عندما تعتقد أنك فهمت كل شيء عن لبنان فاعلم أن الموضوع قد شُرح لك بطريقة خاطئة.

ماثيو: هل قتلتموه؟

ضابط المخابرات: يمكنك المغادرة على طائرة اليوم إن أردت ذلك ولا داعي للتجول هنا فهذا أفضل لك.
ماثيو: ألم تخبرني أن القضية انتهت؟

ضابط المخابرات: الأجواء تتغير عندنا بسرعة. باريس أفضل مكان بالنسبة إليك.

في قصة فيلم (بيروت بالليل) أن ماثيو ممثل قانوني لشركات فرنسية تسعى لعقد صفقة في مجال الاتصالات مع الحكومة السورية. وبين فرنسا وسوريا يتوقف بالعاصمة اللبنانية حيث يلتقي بمغنية (من عائلة ضابط المخابرات الكبير) تربطه بها علاقة غرامية. لكن لقاءه الأهم جمعه بصديق قديم كان قد ساعده في إنقاذ ابن السفير الفرنسي من قضية مخدرات قبل ثلاث سنوات. لم يكن الصديق غير عباس طيار الذي طلب منه ربطه بالسفارة الفرنسية لبيعها أسرارا لها علاقة بقضية اغتيال رفيق الحريري مقابل تأشيرة لفرنسا ولجوء سياسي بها. انتهى المطاف بعباس مقتولا بعد أن رفضت السفارات الغربية التي عرض عليها بيع أسراره التعامل معه، وبعدها مطالبة ماثيو بمغادرة البلاد في اتجاه باريس كما ورد في المشهد أعلاه.

ومن باريس عاد سعد الحريري قبل أيام لتخليد الذكرى الحادية عشرة لاغتيال والده في حفل وزع فيه العناقات والقبلات على الحلفاء قبل أن ينطلق في الحديث عن أوضاع لبنان وملف الرئاسة المفتوح، والأهم التأكيد على أن "لبنان لن يكون ولاية إيرانية". وقبل عودة الحريري كانت الأحداث قد تسارعت بالبلد الذي كان استنفذ تسعة أشهر كاملة لتنصيب حكومة سلام تمام، وها هو اليوم ينتقل من جلسة برلمانية إلى أخرى دون اتفاق على اختيار رئيس جمهورية بفعل عملية التعطيل التي تمارسها القوى المساندة لسماحة السيد ميشيل عون.

وكما كان اسم ميشيل سماحة وإطلاق سراحه في انتظار إعادة محاكمته ضدا على كل القرائن والاعترافات التي أدلى بها بخصوص نقله لأسلحة ومتفجرات تستهدف استقرار البلد وأمنه، فرصة لعودة التراشق الإعلامي والسياسي بين الفريقين المتصارعين على كعكة السلطة، فقد عاد ذات الاسم ليخلط كل الأوراق ويفتح المواجهة على آفاق أوسع بين القوى الإقليمية المؤثرة في القرار اللبناني. ففي نص استقالة وزير العدل أشرف ريفي من الحكومة ذٌكر سماحة بالاسم في ارتباط مع "دويلة حزب الله" الذي "غطى القاتل وحوله إلى قديس جديد عندما عطل وحلفاؤه نقل الملف إلى المجلس العدلي" فكان اختيار الرجل السعي إلى التوجه بالملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي نفس المحكمة التي اضطلعت بملف اغتيال رفيق الحريري دون نتائج ملموسة حتى اليوم. نص الاستقالة ذاتها نقل الصراع داخل الحكومة إلى مستوى غير مسبوق حين طالب الحكومة بالاعتذار للمملكة العربية السعودية بل دعاها للاستقالة كما فعل سمير جعجع بعده حتى لا تتحول إلى "أداة كاملة بيد حزب الله"، الذي لم يتأخر رده حين اعتبر نائب رئيس مجلسه التنفيذي نبيل قاووق عبر وكالة تسنيم الإيرانية أن "النظام السعودي يمكن أن يشتري إرادات عواصم كبرى في العالم بماله ونفوذه، لكنه لا يستطيع أن يغير هوية الجيش اللبناني ولا هوية لبنان وموقعه ودوره".  وحده سماحة السيد ميشيل عون لم يسمع له صوت ودخل في سبات شتوي عميق. لكن الواضح أن الفيلم "كتير كبير".

يبدأ فيلم "فيلم كتير كبير" المنتج في العام 2015 لمخرجه ميرجان بوشعيا بجثة مرمية على قارعة الطريق،  يليها تحقيق في المخفر لمعرفة القاتل. ثلاثة أشقاء متورطون في الجريمة لا نعرف منهم القاتل، لكن الأخ الأصغر جاد يتحمل الجريمة نيابة عن كبيرهم زياد ويحكم عليه بالسجن خمس سنوات. 

في الأثناء يقرر زياد العدول عن الاتجار في المخدرات ضدا على رغبة مزوده أبو علي الذي يقترح عليه القيام بعملية كبرى لتهريب حبوب الكابتاغون إلى سوريا مقابل السماح له بالتوبة. كان الهدف تمرير الشحنة وقتل زياد الذي فطن للأمر فقلب الطاولة على الجميع. وفي الوقت صار يمتلك فيه خزانا استراتيجيا من الحبوب المخدرة دون قدرة على تصريفها في السوق اللبنانية، يسوق إليه القدر مقطع فيديو يتحدث فيه جورج نصر، عميد السينما اللبنانية، عن قصة إيطاليين حاولوا الادعاء بتصوير فيلم سينمائي بلبنان ليستخدموا علب خام السينما في تهريب المخدرات لأن علب النغاتيف لا يتم فحصها من طرف الجمارك في كل المطارات.

لقد تحول زياد، تاجر المخدرات الصغير، إلى منتج سينمائي بعد بيعه بيت العائلة لتمويل إنتاج فيلم "وهمي" يخرجه صديقه عديم الموهبة شربل. والحكاية قصة زواج مسلم من مسيحية سرعان ما تحولت تحت ضغط الممول زياد إلى قصة زواج مسيحي من مسلمة محجبة بعد رفض أخيه لعب دور المسلم سينمائيا وهو المسيحي ديانة. ولم يكن لقصة مثل هذه أن تمر في بلد يتداخل فيه الواقع بالخيال بل يكون الواقع فيه في أغلب الأوقات أغرب من الخيال دون أن تثير الانتباه. هكذا حدثت مشاجرات بمواقع التصوير ووقعت انفجارات نقلتها وسائل الإعلام وهي كلها وقائع وهمية من تدبير منتج الفيلم لترسيخ اسمه وعنوان الفيلم في الأذهان ليشفعا له يوم تهريب علب الفيلم الملآى بالمخدرات.

في كثير من مشاهد الفيلم يبدو المنتج/الممول مسيطرا على ذهنية المخرج الفاشل لتتغير معه القصة ومصائر الأبطال حسب أهوائه ورغباته. يعدل السيناريو وكأنه مجرد كتابة على الورق وتتغير مواقع التصوير لتصير أكثر ملاءمة لمخططات التفجير الوهمية وأكثر قدرة على إثارة الانتباه. في لبنان لم تكن التفجيرات وهمية بل طالت لسنوات "رموز" فريق محدد من السياسيين قبل أن تتوقف بقدرة قادر وكأنها لم تكن.

في النهاية، ينجح زياد في تهريب الممنوعات في اتجاه أربيل تحت رعاية ومساندة أبو علي الذي لم يكن بعيدا عن المشهد طوال مراحل الإعداد. وفي ظل النجاح الذي حققه زياد إعلاميا كان لابد للعصابة أن تحوله إلى نجم سياسي في انتظار تنفيذ ما قد تتطلبه المرحلة القادمة من "تحديات".

الوضع اللبناني الحالي لا يختلف كثيرا عن أحداث فيلم "فيلم كتير كبير" الموزعة بين سماحة والسيد وميشيل وغيرهم من "الزعماء" وبين الضاحية والمعراب والرابية وبكركي وغيرها من أماكن النفوذ الطائفي حيث يكاد يضيع لبنان هوية وكيانا. الفارق الوحيد أن زياد كان يحث مخرج فيلمه على اعتماد أدنى الميزانيات، لكن الممولين في الواقع اللبناني صاروا بميزانيات مفتوحة لعل آخر تعبير عنها كان إعلان إيران استعدادها لتعويض الهبة السعودية الموجهة للجيش وقوى الأمن الداخلي.

على باب مصعد العمارة بفيلم (طالع نازل)، المنتج سنة 2014 لمخرجه محمود حجيج، يدور هذا الحوار بين حارس العمارة وتاجر يوصل الطلبات للزبائن بالعمارة حيث توجد عيادة طبيب نفسي:

الحارس: يا عم جرب أنا بطلع معاك.

التاجر: خلاص، دخيلك بلا سيرته.

الحارس: لك يا عمي هذا حكيم صاحبنا بالرابعز

التاجر: شو هو؟

الحارس: حكيم نفسي بيساعدك. ما بياخذ منك ولا قرش، مشي معي.

التاجر: أعوذ بالله! بدك أنا أروح عند حكيم نفساوي، شو مفكرني أنا مجنون؟

الحارس: اسمعني، انت مشكلتك بكل ها الموضوع  نفسية. والله بساعدك، والله العظيم.

التاجر: بلا نفسي بلا غيره، ما بدعس بالأسانسير.

الحارس: اسطفل، أنا كان بدي أساعدك.

التاجر: شو؟ بدك تضحك علي أمة العالم كله فوق وتحت. روح يا عمي روح.

يغلق مساعد التاجر باب المصعد بعد أن وضع بداخله كل الطلبات.

وفي الوقت الذي أصدر فيه مجلس الوزراء السعودي بيانه المتعلق بإعادة النظر في علاقات المملكة بلبنان بفعل مواقف "ما يسمى حزب الله"، كانت قناة العربية تبث (حكاية حسن) الممجد لمسار الأمين العام ل "ما يسمى حزب الله".

لقد تأكد فعليا أنه عندما تعتقد أنك فهمت كل شيء عن لبنان فاعلم أن الموضوع قد شُرح لك بطريقة خاطئة...

هايدا فيلم كتير كبير.
التعليقات (0)