ترك عبد الفتاح السيسي ترسانة الفضائيات التي تأتمر بأمره، واختص قناة "أوربيت" السعودية بمداخلته قبل ثلاثة أيام، وترك أذرعه الإعلامية كلها، وحرص على أن يختص "عمرو أديب"، بهذه المداخلة، كما اختصه بالمداخلة السابقة.
ما يفعله السيسي، لابد وأن يوغر صدور الأذرع الإعلامية التي تعمل في بلاطه، لاسيما وأنه لا يستطيع القول إن هذه القناة السعودية هي الأكثر مشاهدة، فهي قناة مشفرة، لا أعتقد أن عدد من يشاهدونها في مصر يتجاوز المائة ألف مشاهد، فليس كل الناس بمقدورهم أن يدفعوا الاشتراك الذي يتيح "فك الشفرة"، وليس في القناة ما يستدعي أن يدفع المواطن المصري هذا الاشتراك وأمامه عشرات المحطات الفضائية غير المشفرة، ولا أظن أن "عمرو أديب" يمكن أن يُشد إليه الرحال كمذيع، والمهم في برنامجه يكون في اليوم التالي "على المشاع" عبر مواقع التواصل الاجتماعي!
في المرة الأولى، كان هناك اعتراض من إعلاميي السيسي لأن "زعيمهم المفدى"، اختص قناة تلفزيونية سعودية مشفرة بالاتصال والمداخلة، وعندما يفعلها المذكور للمرة الثانية، غير مهتم بمشاعر أذرعه، لاسيما الذين دفعوا ثمن الولاء من كرامة أقفيتهم في الرحلات الخارجية، فالمعنى أن السيسي قام بهذه المداخلة مدفوعا بالشديد القوي!
يعلم عبد الفتاح السيسي، أن ولاء إعلامييه ليس خالصا له، لأنه لا يمثل "الكفيل الرئيسي" لهم، فهم متعددو الولاءات، و"تمامهم" بالمعنى العسكري ليس عنده ولكن عند غيره الذي قد تتعارض مصالحه مع سياسات السيسي، غير أن ما يجمعهم هو مواجهة قوى الشرعية، أو عندما يجدون أن فشل الحكم الذي يُمهد لسقوطه يمكن أن يكون مبررا لعودة الثورة، وهم يدركون أن الثورة إذا قامت فسوف تنتقم هذه المرة من خصومها وعندئذ ستفتقد الزعامات التاريخية للسمع والطاعة، فلن يسمع أحد للمرشد أو لمكتب الإرشاد، فليس كل أولياء الدم من الإخوان، وإعلاميو السيسي قد يفكرون بصوت مسموع على قاعدة تدوير الانقلاب، وبيدي لا بيد عمرو، وهذا ما ينتج اعتراضا في هذا البرنامج أو ذاك على سياساته التي توردهم مورد التهلكة!
فالمراقب يعلم أن الثلاثي: إبراهيم عيسي، والحسيني، وجابر القرموطي، مثلا هم في الأساس يتبعون "نجيب ساويرس"، ويأتي انحيازهم للسيسي في الحدود التي أوردناها، ونجيب ساويرس، صاحب قناة "أون تي في"، يتعامل على أنه شريك في الانقلاب، وله رغبة في الحكم بالشراكة، كأن يُعهد إليه بتشكيل الحكومة، وفي إطار البيزنس، هو يرى أنه من المفروض أن تتاح له حظوظ في "كعكة الاقتصاد والاستثمار والتسهيلات، لا تتاح لغيره أو هكذا ينبغي أن يحدث بعد دوره في زعزعة الاستقرار في حكم الرئيس محمد مرسي مما مهد الأرض للانقضاض عليه!
في الأولى، فإن السيسي يتصرف على أنه "كالفريك لا يحب شريكا"، ولا يقبل أن يشاركه أحد في الحكم، وقد أطاح بوزير الداخلية الشريك في الانقلاب محمد إبراهيم وينتظر تعديل الدستور لتعديل النص الذي يحصن موقع وزير الدفاع ليتخلص من الوزير الحالي، شريكه أيضا في الانقلاب العسكري، بحكم موقعه كرئيس للأركان حينئذ!
وفي الثانية، فإن السيسي هو "مقاول" ينافس رجال الأعمال، ويترأس شركات الجيش، ويستغل موقعه الوظيفي في إرساء كل الأعمال له، ولهذا فرجال الأعمال يشعرون بعدم تكافؤ الفرص، وكانوا قد شعروا مبكرا بخيبة الأمل أثناء اجتماعهم به عندما كان مرشحا في الانتخابات الرئاسية، وقد طلب منهم مائة مليار جنيه، ولما اعترض البعض، وبدا غير مستوعب للاعتراض، فهو القادم من مؤسسة تعلي من شأن تنفيذ الأوامر تدخل أحدهم "بصنعة لطافة" ليقول إنهم لا يمانعون في التبرع مقابل أن يمكنوا من حظوظ الاستثمار، وقطع السيسي قول كل خطيب بقوله: مشروعات الدولة للجيش، وما يفيض للإمارات، وما يزيد لشركة "المقاولون العرب"، وما يفيض بعد ذلك فلكم. ومن الواضح أنه وإلى الآن لم يفض شيء عن حاجة جهاز المشروعات بالقوات المسلحة!
كان يمكن للأمور أن تسير بالإكراه تحت لافتة "حكم القوي"، لكن السيسي فشل، وهو مع فشله ازدادت نسبة المعارضين له في دوائره، وسقطت هيبته على نحو يجعل من سقوطه محتملا، ولهذا كله يحدث أن يجهر أحد أذرعه الإعلامية بالسوء من القول في حقه، فيدهش مشاهديه!
ولم يعد خافيا، أن بعض هذه الأذرع "تمامها" عند من يمثل خطرا حقيقيا عليه وهو الفريق "أحمد شفيق"، أو عند أجهزة أمنية وإن كانت تعمل في خدمته، إلا أن أزمته أنه لا يزال يتعامل، وهو الرئيس، على أنه يرأس جهازا منافسا لهذه الأجهزة وهو جهاز "المخابرات الحربية"، الذي أراد له السيسي منذ ثورة يناير أن يهيمن وأن يحكم، وأن يقوم بدور جهاز مباحث أمن الدولة، وينافس أجهزة أخرى على اختصاصها في الأمن الداخلي، وهذه الأجهزة وإن كانت تعمل من أجل استمرار الحكم الحالي، فإنها، في إطار الصراع على الهيمنة، تستخدم رجالها في وسائل الإعلام، وشخصية السيسي تجعله لا يؤمن بوائق هؤلاء أبدا، فيتصرف على أنه مدير المخابرات الحربية، طرفا في الصراع وليس رئيس الجمهورية الذي هو فوق الأجهزة!
وهذا لا يمنع أن من بين هؤلاء الإعلاميين من تعدد ولاءاته؛ فيعمل لدى أكثر من جهة، لكن يظل هناك "راع رسمي"، و"كفيل رئيسي"، ولا تمثل هذه الولاءات مشكلة إلا عند تقاطع المصالح!
والحال كذلك، فإن السيسي يبدو غير مكترث بإرضاء أذرعه الإعلامية، لأنه يعلم أنه في ظل حالة الاستقطاب داخل جبهة الانقلاب، وفي ظل حالة الهوان التي يعيشها هو، فلابد أن يهتم بمصالحه الخاصة، وقد سبق وأن أعلن في خطابه الأخير أنه في أضعف حالاته، وقد يقول قائل إنه يصف حال مصر، لكن فات هؤلاء أنه يختزل الدولة والنظام والحكم في شخصه، فهو مصر ومصر هو، ولهذا فهو يرى أن معارضيه يعملون على إسقاط الدولة، بحسبه هو الدولة المصرية، وهو ما عبر عنه ذات مرة بأنه لا يوجد شيء اسمه "النظام" وإنما "الدولة"، لكي يسقط الوطنية عن من يطالبون بإسقاط النظام وهو شعار الثورة المصرية في يناير.
في اختياره للمنبر المشفر، كان السيسي يخاطب أصحاب هذا المنبر، فهو يعلم أن الانقلاب له دوائر إقليمية ودولية، وهو يعلم أنه بوفاة الملك عبد الله فقد الداعم الرئيس له، صحيح أن الملك سلمان ليس منحازا للربيع العربي، وليس مؤيدا للحكم المدني في مصر، ولن يكون سعيدا بعودة الإخوان المسلمين للحكم، لكن "النفوس معبأة" سلفا، ومنذ أن كانت سلطة الانقلاب في مصر تتآمر على إبعاد ولي العهد من الحكم في حياة الملك عبد الله، وقد بدت البغضاء في الفضائيات، ويحدث بين الحين والآخر هجوم على المملكة، وعندما يحدث هذا من إعلاميين مصريين موالين للسلطة، فلا يمكن الشك لحظة أن هذا يتم بتوجيه، فالذين مارسوا المهنة في عهد مبارك يعلمون أن السعودية خط أحمر في الإعلام المصري، بكل توجهاته، وهناك صحف أغلقت وأحزاب تفككت لأنها لم تراع ذلك، وربما لأنها كانت تعلمه لكن الثمن كان مغريا وكان مدفوعا من القائد الليبي العقيد القذافي!
وقد كانت ثالثة الأثافي، التي أوغرت الصدور هي النظرة لحكام دول الخليج التي تحكم سلطة الانقلاب، فالعلاقة لا تقوم على الاحترام المتبادل، وعلى الأخوة التاريخية، وإنما على الانتهازية، وهي الصيغة التي عبر عنها سكرتير السيسي "عباس كامل" بـ "هات خد" في إشارة إلى الحصول على الثمن مقدما إذا طلب منه إرسال قوات مصرية في مهام تخص دول الخليج، فضلا عن السلوك الذي يدفع للتشاؤم، عندما يتم الحديث عن أهل الخليج بأنهم يملكون "أموالا متلتلة"، لاحظ انخفاض سعر البترول، والأزمات الاقتصادية التي مرت بها هذه الدول بعد هذا الكلام!
وإذا كان حكام المملكة العربية السعودية سعوا لتجاوز هذا كله، فإن حليفهم في القاهرة، أثبت أنه لا يُؤمن بوائقه ولا يطمئن له، فقد استقبل نظامه وفدا من الحوثيين في القاهرة، ووفدا من حزب الله، وقيل إن زيارة سرية لأركان حكمه تمت لطهران، فالرجل الذي خان رئيسه الذي رفعه رتبتين عسكريتين واصطفاه وزيرا للدفاع بإرادته الحرة يمكن أن يخون أي أحد، وبطبيعة الحال فإن الشك لم يصل للقطيعة، فهناك زيارات بروتوكولية، إنما ظل ما في القلب في القلب!
وإن كان هناك سؤال يطرح نفسه ويحتاج لإجابة، هل تحركت المملكة العربية السعودية في اتجاه التفكير في مرحلة ما بعد السيسي؟ والتي ربما لا تكون في هذا مدفوعة بدوافع ما في "النفوس"، وإنما الخشية من سقوط حكمه بفعل التحرك الثوري، فيكون حق تقرير المصير بيد الشعب المصري وليس بيد القوى الإقليمية والدولية!
في مقال الكاتب المقرب من السيسي "عبد الله السناوي" ما يشير إلى أن الخارج ناقش أزمة الحكم في مصر، وبحث أمره، وهل يعد حكما مستقرا فيجري دعمه أم ضعيفا فيكون خلعه بيدنا لا بيد الشعب المصري. وإذا كان "السناوي" قصد الخارج بمعنى الدوائر الدولية، فلا يمنع هذا أن تكون الدوائر الإقليمية حاضرة بصفتها شريكا أصيلا في أحداث 30 يونيو، ولها رجالها في جبهة الحكم، ولديها بدائلها من "الفريق" أحمد شفيق إلى "الفريق" سامي عنان!
وعندما هتف السيسي: "إنتم مين"؟ لم يكن يقصد الشعب المصري كما اعتقد البعض، فليس طبيعيا أن يخاطب الشعب المصري ويتباهى بأعداده وبقوله "إحنا 90 مليون"، ولغة التفاخر بالتاريخ وبعدد السكان وخطاب الازدراء المصري نحن نعلم لمن يوجه رسميا وربما شعبيا، ومن السادات إلى عبد الفتاح السيسي.
وفي هذا الخطاب تحدث السيسي عن قدرته على البناء والتشييد، وبناء مدن صناعية ومجتمعات عمرانية، وكان يقول هذا الكلام وكأن هناك من يمنعه، وأنه يتحداه، لكن الذين لديهم علم من الخطاب، وفك الشفرة وقفوا على أنه يوجه حديثه لمن توقفوا عن دعمه، وربما ظن أنهم يعملون على إسقاطه بذلك فقال إنه قادر، مع أنه قبل قليل كان قد اعترف بأن مصر في أضعف حالاتها، وعندما يلوح بقوته فإنه يعلن أنه سينجح بهم أو من غيرهم، وأنه يستطيع تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فمن الأفضل لهم أن يكونوا معه حتى لا ينجح بدونهم.
"آل أديب" هم خيار سعودي بامتياز، منذ أن انبرى "عماد أديب" في صورة الفارس، وأدار مكتب جريدة "الشرق الأوسط" في القاهرة بعد أن غادر "إبراهيم سعده" المكتب وعينه السادات رئيسا لتحرير "أخبار اليوم". وكان السادات قد هاجم الصحفيين الذين يكتبون في الصحف الخليجية بالذات، والتي كانت تهاجمه، وقام بتخييرهم بين الكتابة في الصحف المصرية أو تلك الصحف، فتوقف "مصطفى أمين" عن نشر مقاله في "الشرق الأوسط"، وهذا موضوع شرحه يطول.
وإذا أردت أن تعرف لماذا كانت "مداخلة" السيسي مع "عمرو أديب" بالذات، فينبغي أن تشاهد برنامجه في اليوم السابق لهذه المداخلة، فبدا في هذه الحلقة "صدى" وظهر فيها كما لو كان يشيع نظام السيسي لمثواه الأخير وهو يرحب بمبادرة البديل لحمدين صباحي!
وعندما اختار السيسي فضائية سعودية مشفرة وبرنامج "عمرو أديب" في اليوم التالي بالذات، فهو لم يكن مدركا أن كلامه لن يصل لعموم المصريين، غاية ما في الأمر أنه لم يكن يخاطب الشعب المصري في هذه المداخلة، تماما كما لم يكن يقصد المصريين عندما تساءل: "من أنتم"؟!