استغربت أن تتواجد في العالم العربي هيئة رسمية تراقب أداء وسائل الإعلام وتدقق في عدالة موقفها إزاء مختلف التجمعات والتيارات في البلد، بحيث يكون للمعارضة الحضور الذي تستحقه جنبا إلى جنب مع السلطة وأحزاب الأغلبية التي تحكم.
صحيح أن الهيئات التي تراقب الإعلام المرئي والمسموع موجودة في عدة أقطار، لكن ما أعرفه أنها تؤدي وظائف رقابية وأمنية في خدمة الحكومات والأنظمة المختلفة. ودورها في ذلك أقرب إلى دور «المكتوبجي» الذي كان يراقب المطبوعات في أواخر عهد الدولة العثمانية. إلا أنني اكتشفت أن في المملكة المغربية نموذجا استثنائيا ومختلفا تماما، بمقتضاه تتم المراقبة لصالح المجتمع وليس السلطة، ولرعاية التعددية السياسية وليس لتشديد قبضة السلطة وضمان الحفاظ على هيمنة الصوت الواحد.
الأمر بدا اكتشافا بالنسبة لي، إذ وقعت على تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في 31/12 من الرباط كان خلاصة لحصيلة المسح الذي أجرته الهيئة المغربية للاتصال المسموع والمرئي لأداء وسائل الإعلام خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام الفائت. وأسفر ذلك المسح عن النتائج التالية:
* مداخلات الشخصيات العامة في نشرات أخبار وسائل الاتصال المرئي والمسموع توزعت على النحو التالي: مداخلات الحكومة وأحزاب الأغلبية (الأربعة) على القنوات التلفزيونية العمومية (الحكومية) تجاوزت مدتها 11 ساعة و6 دقائق، بالمقابل فإن حصة أحزاب المعارضة البرلمانية (أربعة) كانت في حدود 3 ساعات و27 دقيقة. أما الأحزاب غير الممثلة في البرلمان فقد كانت حصتها 56 دقيقة.
* في القنوات التلفزيونية العمومية تجاوزت حصة الحكومة وأحزاب الأغلبية البرلمانية ضعف مداخلات المعارضة البرلمانية، باستثناء قناة «العيون» الجهوية (في الجنوب وتبث باللغة العربية واللهجة الحسانية التي هي بدوية تخص أهالي منطقة الصحراء)، ذلك أن حصة المعارضة في تلك القناة التي تبث من مدينة العيون تفوقت على حصة الحكومة والأغلبية. أضافت الهيئة أن مداخلات الأحزاب غير الممثلة في البرلمان ظلت الأضعف طول الوقت، إذ ظلت دون حصص الحكومة والأغلبية البرلمانية والمعارضة البرلمانية ودون النسبة المقررة لتلك الأحزاب غير البرلمانية.
* في بث القناة التلفزيونية الخاصة (ميدي آي.تي.في) ظلت مداخلات الحكومة وأحزاب الأغلبية البرلمانية في المقدمة بنسبة تجاوزت 78? مقابل 21? للمعارضة البرلمانية.
* في بث القناة التلفزيونية الخاصة «ميدي. آي. تي. في» ظلت مداخلات الحكومة وأحزاب الأغلبية البرلمانية في المقدمة بنسبة تجاوزت 78? مقابل 21? للمعارضة البرلمانية.
* فيما خص الإذاعات العمومية كان نصيب الحكومة وأحزاب الأغلبية البرلمانية في الأشهر المشار إليها 12 ساعة و8 دقائق مقابل أزيد ساعة و45 دقيقة لأحزاب المعارضة البرلمانية. وأقل من تسع دقائق للأحزاب غير الممثلة في البرلمان.
* في الإذاعات الخاصة كانت حصة الحكومة وأحزاب الأغلبية أقل (4 ساعات و41 دقيقة) مقابل ساعة و12 دقيقة لأحزاب المعارضة وسبع دقائق لمداخلات الأحزاب غير الممثلة في البرلمان.
* لم تكتف عملية المسح والرصد بمراجعة حصص الأحزاب السياسية باختلاف مواقعها (في الحكومة أو المعارضة أو خارج البرلمان)، ذلك أنها شملت المنظمات النقابية والمهنية. فأشارت إلى أربعة اتحادات عمالية كان لها النصيب الأكبر في بث وسائل الاتصال المسموع والمرئي، في حين استفاد الاتحاد العام للمقاولات من أكبر حيز زمني مقارنة مع بقية المنظمات المهنية. واستفادت غرفة التجارة والصناعة والخدمات بالرباط من أكبر حيز زمني مقارنة مع الغرف المهنية الأخرى.
استوقفتني الفقرة الأخيرة من التقرير التي ذكرت أن هذا البيان يندرج في إطار المهمة التي تضطلع بها الهيئة العليا للاتصال المسموع والمرئي (الهاكا) في تتبع مدى احترام وسائل الاتصال المسموع والمرئي لتعددية التعبير عن تيارات الفكر والرأي في المجتمع المغربي.
أيا كان رأينا في طبيعة وحدود الممارسة الديمقراطية في المغرب، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن ذلك الجهد الذي عرضته من إفرازات تلك الممارسة التي تحترم التعددية وتشجعها. وقد شاءت المقادير أن أطالع التقرير في الوقت الذي تحفل وسائل الإعلام المصرية بأخبار متابعة برلمان اللون الواحد الذي تتنافس فيه مختلف التجمعات السياسية على تأييد الرئيس، وباسم دعم الدولة يتبنى التجمع الأكبر في البرلمان فكرة إطالة مدة الرئيس من أربع إلى ست سنوات. لم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة لكني وجدت البون شاسعا بين التجربتين، إذ لديهم في المغرب أحزاب حقيقية ومعارضة محترمة لها حقوق. كما أن لديهم مؤسسة مستقلة تراقب بحياد وسائل الإعلام، ثم تعلن نتيجة عملها على الملأ، لتثبيت حق كل فئة في الحضور والتمثيل في الفضاء الإعلامي. لديهم كل ذلك وليس لدينا منه شيء، حين تحققت من ذلك فإنني غيرت رأيي وصرفت النظر عن المقارنة.