قرأت مقال الأخ الكبير العزيز د. محمود عاكف المنشور على موقع "
عربي21" يوم الثلاثاء الماضي، وعنوانه: الأستاذ عبد القادر عودة الشهيد المفترى عليه، والمقال رد على مقال سابق لي كنت أتحدث فيه عن أخطاء
الإخوان في
السياسة، وقابلني بعدها يخبرني برده، وأنه سيكتب، ويخالفني في الرأي، خاصة في حادثة الأستاذ عبد القادر عودة وصرفه للجماهير المحتشدة في ميدان عابدين.
وكما خالفت أخي الدكتور محمود عاكف في كتابتي الأولى، أجدني هنا مضطرا للمخالفة مرة أخرى، وبصراحة أكثر، وتفصيل أطول من ذي قبل، وحادثة عبد القادر عودة هنا، ليست المعنية تحديدا، بل هي نقطة التقاء بين مدرستين في الإخوان، من حيث الخلاف أو الاتفاق حولها، يرى الدكتور عاكف أن عبد القادر عودة فعل الصواب وقتها، وأنه نظر إلى وزن الجماعة قبالة المؤسسة
العسكرية.
بداية أحب أن أنوه بإعجابي الشديد بعبقرية عبد القادر عودة
القانونية والشرعية، والتي تجلت في أعظم عمل فقهي في تاريخ الإسلام كله في الجانب الفقهي الجنائي، بكتابه (التشريع الجنائي الإسلامي) خاصة الجزء الأول، الذي تحدث فيه عن الفقه الجنائي العام، وهو جانب لم يسبقه في تاريخ الإسلام كله أحد كتب في هذا الجانب بهذه العبقرية والشمول والروعة، هذا من حيث عبقريته الفقهية والقانونية.
أما من حيث أداؤه السياسي، فليس ظلما له أن نقول: إن عبد القادر عودة ومن سار على دربه في الإخوان كانوا يمثلون خط السذاجة السياسية داخل الجماعة، ومن قِبَلهم - بحسن نية طبعا - أُتيت الجماعة، وأكلها العسكر بطريقة تدعو للغرابة الشديدة، بل للحسرة أحيانا.
إن الموقف الذي نختلف حوله، هو خروج جماهير حاشدة في مصر في مارس 1954م، بلغت حوالي نصف مليون متظاهر، معظمهم من الشباب، ينادون بعودة العسكر لثكناته، وتسليم الحكم لقيادات مدنية، وإذ بمحمد نجيب يطل من شرفة قصر عابدين، يطالب الجماهير بالانصراف، وأن الرسالة قد وصلت، ولم يستجب أحد، فنادى على عبد القادر عودة ليصرفهم، فأمرهم بالانصراف، وبعد دقائق معدودة كان الميدان خاليا تماما من الجماهير، قال لي المرحوم د. جابر قميحة: كنت موجودا وقتها، وكان بجانبي أحد المربين الكبار في الإخوان، فبكى، وقال لي: هذا يوم وفاة عبد القادر عودة، فقال له: كيف تقول ذلك، ونحن في هذه القوة؟! قال: لقد كشف عبد القادر عن قوته الكامنة، ومن ورائه الجماعة، ثم أعاد هذه القوة إلى كمون لا ينتهي إلا بوفاته ووفاتنا.
فأين مكمن الخطأ فيما أرى في السذاجة السياسية التي تعاملنا بها كإخوان مسلمين مع العسكر هنا؟ وما موازين القوى وقتها؟ ومن كان الأقوى: العسكر، أم الإخوان، من حيث قوة الجماهير، ومن حيث قوة العتاد والعدة؟
إن مكمن الخطأ الأكبر في هذه المعركة، أن العسكر أحسن اختيار من يقوده فيها، بينما أساء الإخوان اختيار من يدير المعركة مع العسكر، فبالنظر إلى من أدار المعركة في الطرفين، نعلم لماذا كانت النتيجة لصالح العسكر، فقد قادها في الإخوان عبد القادر عودة، وهو قاض قانوني، والقاضي لا يقضي ولا يحكم، إلا بعد السماع التام الكامل للأطراف كلها، وليس معنيا بانتصار طرف على طرف، وشعاره: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، أما قيادة العسكر فكانت عبد الناصر، عسكري، كل حياته المعارك، وهو مدرس مادة التكتيك الحربي في الكلية الحربية، والأصل في تعامل العسكري: سوء الظن من حسن الفطن، أي أن سوء الظن مقدم على حسنه، وبالتالي فقد كانت المعادلة محسومة لصالح العسكر، وكان الصواب أن يقود المعركة في الإخوان عسكر الإخوان لا المدنيون، وقد عرض عليهم ذلك عبد المنعم عبد الرؤوف الذي كان مسؤول عبد الناصر في التنظيم الخاص في الإخوان، وقال لهم وقتها: أريد فقط ثلاثمائة من الإخوان، سأقوم بالقبض على مجلس قيادة الثورة، وننهي هذا العبث بمستقبل مصر والجماعة.
وهو ما أكده محمود عبد الحليم في كتابه (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) الجزء الثالث، في دراسته لشخصية عبد الناصر، أنه درس الإخوان جيدا، بينما لم يدرس الإخوان عبد الناصر والعسكر تماما، فقد استمال عبد الناصر عبد القادر عودة له، مما اضطر مرشد الإخوان حسن الهضيبي لسحب صلاحياته كوكيل لجماعة الإخوان، وإنشاء منصب آخر لشخص آخر يتولاها، عرف عبد الناصر أن أحد رؤوس الجماعة المهمة ومفتاحها، هو عبد القادر عودة، وأنه قاض يميل لحسن الظن، فأظهر له حبه للدعوة، وأن العقبة الوحيدة أمام توافق العسكر مع الإخوان هي حسن الهضيبي، وهو تماما ما تم مع الإخوان بعد ثورة يناير، فقد درسوا الجماعة جيدا، وعرفوا أن مفتاحها هو المهندس خيرت الشاطر، وإذا تم إقناعه بشيء، فقد ضمنوا الوريد الرئيسي للجماعة الذي عن طريقه تبث كل سياسات الجماعة وتوجهاتها، فالسيسي رجل مؤمن، وأخ من الإخوان المسلمين، والعقبة الوحيدة في الإخوان تتمثل في محمد البلتاجي ومن على دربه في تعاملهم مع العسكر، فلينحى هذا التيار القوي داخل الجماعة، حتى تتم الخطة ليؤكل الإخوان سياسيا، وهذا ما يحتاج لتفاصيل أكثر، لكنها مجرد ربط لعقيلة العسكر ودرسه لعقلية الإخوان.
أما عن إمكانية الجماعة وقدرتها، فقد كانت الجماعة هي الأقوى حينذاك، ولذلك أجل عبد الناصر والعسكر الصدام معها، بعد أن وقعت بعض قيادات الإخوان في فخ معاونة عبد الناصر بالصمت على التخلص من القوى المدنية الشعبية كالوفد وغيرهم، وخذلان محمد نجيب، وعدم الوقوف إلى جانبه في معركته مع العسكر بمطالبته الدائمة لهم بالعودة إلى الثكنات، وهو ما فصله نجيب في مذكراته (كنت رئيسا لمصر).
كم كانت قوة مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار، وكم كان عددهم؟ 15 ضابطا، 20، مائة ضابط؟! والجيش المصري وقتها كان في أضعف حالاته، ونكبة 1948م شاهدة على ذلك، وكم كانت قوة تنظيم الإخوان شعبيا، وعسكريا؟ شعبيا فيتبعهم نصف مليون شاب، وعسكريا فلديهم تنظيم عسكري من المدنيين، وتنظيم عسكري داخل الجيش، وتنظيم عسكري داخل الشرطة، فهل كان يملك عبد الناصر مثل ما يمتلك الإخوان؟ يقينا: لا. لكنها ببساطة الحقيقة التي يريد الجميع أن يهرب منها: سذاجة القيادة الإخوانية السياسية.
لقد تعلم الكثيرون من خطأ عبد القادر عودة والإخوان في هذا الموقف مع العسكر، فعندما قامت الثورة الإيرانية، صرخ الناس في الخميني، اطلب من الجماهير العودة للبيوت، وكفى ما تم، فقال لهم بوضوح: لن نقع فيما وقع فيه الإخوان وعبد القادر عودة، لو صرفنا الجماهير لن نستطيع أن نخرجها مرة أخرى، إنها معركة لا بد من سقوط الطاغية فيها ونظامه تماما، ولا عودة للجماهير من الميادين حتى تتم الثورة، الوحيدون الذين لم يستفيدوا من الدرس للأسف: هم الإخوان، وشاركهم في ذلك القوى المدنية في مصر.
أخي الدكتور محمود عاكف، إخواني في جماعة الإخوان: نعم كانت قيادتنا أيام عبد الناصر ساذجة سياسيا، وكانت قيادتنا بعد ثورة يناير أكثر سذاجة، فلئن كان عبد القادر عودة ساذجا سياسيا لكنه كان فقيها، بينما كانت قيادتنا الحالية ساذجة سياسيا، لكنها لم تكن في علم عبد القادر عودة وفقهه، وعذره أنه لم يكن له سابق موقف مع العسكر، أما الحاليون، فقد كانت أمامهم عبرة الماضي، التي ذكرهم بها المشير طنطاوي بعد ثورة يناير قائلا: على القوى السياسية ألا تنسى درس الماضي، وسأل الإخوان المستشار طارق البشري: هل يقصد بذلك محنة 1954م؟ قال: نعم هو يذكركم بذلك، ويهددكم به.
هذا قليل من كثير لدي في الموضوع، من حيث التاريخ، ومن حيث العبرة، والسعيد من وعظ بغيره، والأكثر سعادة من وعظ بتجربته وخطئه.