قضايا وآراء

"المجتمع المدني" وإعادة بناء السلطة

1300x600
1300x600
يرتبط المصطلح فور إطلاقه بنموذج الدولة الغربية المعاصرة؛ حيث إنه نتاج أفكار ما بعد عصور الظلام الأوروبية في القرن السابع عشر والثامن عشر على يد مجموعة من المفكرين الغربيين مثل روسو وجون لوك وماركس؛ فكل منهم استخدم المصطلح داخل رؤيته الأيديولوجية؛ ويبدو أن هذا الارتباط صحيح للوهلة الأولى وخاصة عندما يرتبط المصطلح بكافة إجراءاته المُطَبَّقة في الواقع وكافة المنظمات التي تعبر عن المجتمع المدني داخل الحضارة الغربية، فهي بالتأكيد في كثير من إجراءاتها تتناقض مع الثوابت الحضارية والفكرية للمجتمعات الإسلامية.

وهذه المسألة هي إحدى المشاكل الهيكلية في نمط التفكير داخل المجتمع الإسلامي وهي ناتجة عن التوقف الكبير والطويل في تطوير الفكر السياسي الإسلامي بل وإعادة إنتاجه بشكل يرسخ للاستبداد بما يتناقض مع أكثر القواعد وضوحا، ألا وهو ما قاله ربعي بن عامر "جئنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله" (ابن كثير الجزء السابع غزوة القادسية). هذا المبدأ الحاسم الذي ابتعدنا عنه كثيرا. هذه المسألة هي حصار العقل السياسي الإسلامي داخل بوتقة المصطلحات الغربية بكل أبعادها دون محاولة البحث عن المصطلح المناظر لها في التراث الإسلامي.

فنموذج السلطة داخل المجتمع الإسلامي في معظم تاريخه قبل الغزو الغربي الساحق في نهايات القرن السابع عشر كان مختلفا تماما عن النموذج الغربي القديم والحديث؛ وكان الاختلاف بالأساس حول شكل السلطة وتوزيعها داخل المجتمع، وهذا موضوع طويل ومعقد، وما يهمنا الآن في ذلك السياق هو أن المجتمع كان يمتلك الكثير من ملفات السلطة وكان رأس السلطة أيا كان مسماه يمتلك جزءا من تلك الملفات.

وكان المجتمع يستطيع تكوين جماعات متماسكة قوية وفاعلة تستطيع إدارة نفسها بعيدا عن رأس السلطة؛ فكانت ملفات التعليم والصحة والصناعة والزراعة والأوقاف وغيرها يديرها المجتمع بشكل شبه كامل؛ وكانت أهم الملفات التي يديرها رأس السلطة هي الدفاع والأمن والضرائب؛ كما كانت فكرة احتكار القوة المسلحة غير مطروحة بالأساس لأنها منافية لقواعد المنطق وكان المجتمع كله مؤهلا للدفاع عن نفسه.

والدولة الحديثة وما بعدها ضد أي تجمع آخر غير الدولة، وبالتالي تجنح إلى تفتيت المجتمع لأصغر وحدة ممكنة وهي الفرد؛ لذا فإن مفهوم المجتمع المدني الغربي ناتج تالٍ عن هذا المفهوم شديد الفردية؛ وهو بالتأكيد قادر على حماية المجتمع من الاحتكار الكامل للسلطة الموجود بنموذج الدولة الحديثة خاصة في حالة كونها دولة تجنح للاستبداد كالدول العربية المستباحة.

ولكن النموذج الإسلامي للمجتمعات المدنية إن صح التعبير، نتج في نسق بناء للسلطة مختلف اختلافا حادا عن النموذج الغربي؛ وبالتالي فهو ينشأ لا لتفتيت احتكار السلطة ولكن ينشأ للمشاركة في إدارة السلطة طبقا للنموذج الذي استمر ما يزيد على عشرة قرون.

ويمكن القول إن الهدف الشامل من وجود المجمتع المدني هو المشاركة في السلطة أو على الأقل هو كبح جماح احتكار السلطة لدى الدولة في نموذج الدولة الحديثة؛ بينما هو جزء أصيل ومشارك في السلطة بشكل كبير داخل النموذج الإسلامي. ويرجع ذلك كما ذكرنا إلى اختلاف حاد في بنية السلطة داخل المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي وقد أكدت ذلك أكثر من دراسة مثل "الدولة المستحيلة" للدكتور وائل الحلاق و"سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" لنوح فيلدمان.

إن حجم التشوه الشديد الحادث في المجتمعات الإسلامية نتيجة الغزوة الشرسة على العقل الجمعي وعلى أسس الحضارة والفكر الإسلامي جعلنا أسرى للمفاهيم الغربية بإجراءاتها وبيئتها الحاضنة لها؛ ولو أمعنا النظر قليلا لوجدنا أنه على مر التاريخ لم يكن هناك مجتمع متحكم في جزء معتبر من ملفات السلطة أكثر من المجتمع الإسلامي، ولو كان هذا يسمى "المجتمع المدني" فنحن أصحابه بامتياز، والمعروف أن الفعل سابق لصياغة مصطلحه. 

إن المجتمع الإسلامي الحقيقي مجتمع راق؛ يبنغي علينا إعادة بنائه والتفكير في طرح نمط للسلطة يتجاوز الاحتكار لها سواء كان احتكارا استبداديا أم ديمقراطيا، وعلينا النظر إلى التراث الضخم وإعادة تركيبه وبنائه بما يحقق المعادلة الرئيسة في نمط الحكم، ألا وهي الحكم لله والسلطة للشعب؛ والسلطة تكون للشعب بشكل حقيقي ليس فقط مجرد الاختيار للطبقة الحاكمة – وهو بالتأكيد خطوة ربما كانت مهمة في ظرف تاريخي معين - ولكن بامتلاك ملفات السلطة بشكل حقيقي كما كان قبل تغول الدولة الحديثة واحتكارها لكل شيء.
0
التعليقات (0)