إذا كان
الدين، أي دين كان، اختيارا فرديا خالصا، فإن ذلك لا ينفي عنه انتماءه للفضاء العمومي العام، إذا لم يكن من زاوية أن للطقس الديني وظيفة اجتماعية معينة، فعلى الأقل من باب أن الاختيار الديني للفرد تترتب عنه تداعيات سوسيو/ سياسية، قد نلامس وقعها على الأرض بواسطة هذا المؤشر المعياري أو ذاك.
ولذلك، فإذا سلمنا بأن للدين حقا وظيفة اجتماعية ما، فإننا سنسلم أيضا بأن الفرد هو كل متكامل، لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نعزل معتقداته الدينية عن سلوكه العام كمواطن مكتمل
المواطنة. بيد أن التساؤل الجوهري بهذا الخصوص لا يجب أن يبقى محصورا في علاقة الفرد بالدين (وبالتدين)، أو بالعلاقات التي ينسجانها معا اعتقادا أو طقوسا أو تمثلات، بقدر ما يجب أن ينصب أكثر حول إشكالية العلاقة بين الدين والديموقراطية بوجه عام من زاوية: هل ثمة حقا ممانعة ما بين المجالين؟
ويبدو لنا أن المعالجة من هذه الطينة، هي التي من شأنها أن تفتح أبواب النقاش حول معنى الارتباط أو التنافي بين طرفي المعادلة المثارة في هذا الإطار.
لنعترف بداية، بأن معطيات واقع الحال تؤكد أنه حيثما كان ثمة نظم سياسية كليانية وغير
ديموقراطية، إلا وكان للدين الدور الاستراتيجي بقلب المنظومة، في الشكل كما في الجوهر على حد سواء. وكلما كانت النظم ديموقراطية أو منسوب الديموقراطية من بين ظهرانيها معتبرا، كلما انمحى تواجد الدين بقوة، على مستوى عدم اكتراث الأفراد به، كما على مستوى النظم السياسية التي تنفر منه، أو لا تستحضره عند تدافع الفاعلين بالمجال العام.
بخطاب الحالة الأولى (حالة الدول الكليانية) يتخذ الدين إما كأداة لشرعنة النظام، أو كوسيلة لضمان "اللحمة الاجتماعية"، أو كإطار لفرض تراتبية يتم اللجوء إليها عند الحاجة. أما بخطاب الحالة الثانية، فنحن بإزاء سياق لا يحق بموجبه للفرد أو للدولة أن يفرضا على "الجماهير" تمثلا ما، حتى وإن كان التمثل إياه نابعا من نص مقدس، أو متأتيا من عرف لم يعد مثار منازعة: القمة تفقد مهابتها أمام القاعدة في الحالة الثانية، في حين تبقى المهابة كل المهابة للقمة في الحالة الأولى.
ومع ذلك، يبقى الديني حاضرا بهذه الصيغة كما بتلك، بما فيها صيغة العلمانية "المطلقة" التي تشدد على استبعاد الديني من الحقل السياسي ومن المبارزة الديموقراطية، وحصره في نطاق الفعل المنعزل، فعل "الذوات الفردية" الصرفة.
يترتب على هذا "الفصل القسري" للديني عن السياسي نتيجتان اثنتان:
-النتيجة الأولى ومؤداها إقصاء الديني واعتباره خارج الفعل الجماعي، مما يعني إقصاء كل المتدينين من الفضاء العام، واعتبار ما يصدر عنهم غير ذي موضوع في المنافسة الديموقراطية. وهذه مسألة غير سليمة، أو لنقل من شأنها أن تحيلنا ولو جزئيا على منظومة الدول الكليانية وغير الديموقراطية.
-النتيجة الثانية ومفادها نفي أي دور اجتماعي للديني وإخراجه من آليات اشتغال المجتمع، لا سيما في مؤسسات إنتاج وتصريف القيم، في حين أنه بقدر ما تقدمه مادة الجماليات من قيم بالمدارس مثلا، فإن الدين هو بدوره منهلا لمجموعة قيم، قد لا يزايد عليها العلماني كما المتدين سواء بسواء.
من جهة أخرى، يبدو أنه حتى الشعارات الكبرى التي نجدها تؤثث هذا النص الدستوري أو ذاك (كالحرية أو العدالة أو المساواة) غالبا ما تجد مصدرها بالنصوص الدينية، لا بل وهي التي تؤسس للتضامنات الاجتماعية المهيكلة لإطار العيش العام المشترك، وإلا لتحولت الديوقراطيات، في حال استبعادها إلى أفراد وفئات، ولربما إلى طوائف وأعراق.
صحيح أنها قيم ترفع من قيمة الفرد وتوسع من أفق حريته، لكنها تسمك في الوقت ذاته العلاقات الاجتماعية، وتحول دونها ودون التحول إلى فردانيات منعزلة، وغيتوهات متراصة الواحد بجنب الآخر.
من غير المنصف، والحالة هاته، أن تتبنى النظم الديموقراطية قيما محددة، لكنها ترفض في المقابل، أن تعترف لها بطبيعتها الدينية. ومن غير المنصف أيضا أن تدعي النظم الديموقراطية تشبثها بالعلمانية، وهي تعلم أن قيم هذه الأخيرة مستقاة من الدين بهذا الشكل أو ذاك.
لا يتعلق الأمر هنا بمسألة اتخاذ الديني كأداة للشرعنة السياسية، بقدر ما يتعلق بالسؤال الجوهري التالي: هل الديموقراطية هي المصدر الوحيد والأوحد للقيم في المجتمع، كيف ماكان نضج هذا الأخير؟
بهذه النقطة، نستطيع الادعاء بأن
السياسة ليست مصدر القيم ولا أداة إنتاجها. إنها "النظام" الذي يثوي خلف تنظيم هذه القيم، بأفق تصريفها والإبقاء عليها، والحؤول دون أن تتصادم مع بعضها البعض في حالتي الممانعة والتنافر.
وعلى هذا الأساس، فالعلمانية لا يجب أن تروم إقصاء الديني بتاتا، لأن من شأن ذلك أن يخلق حالة من المعاداة بين الدين والديموقراطية، بل يجب أن تعمل على احترام "استقلالية" حقليهما، مع إبداع جسور التواصل بينهما، على الأقل من زاوية أن التضييق على الحرية الدينية قد يكون مصدرا للتضييق على الديموقراطية نفسها.