كتاب عربي 21

لبنانيون سنّة في قوارب الروليت السورية

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600
هي الهجرة الاستباقية التي بدأها المئات من أبناء مدينة طرابلس اللبنانية (حتى الآن) إلى جنة أوروبا عبر جحيم قوارب الموت من شواطئ طرابلس إلى شواطئ تركيا ومنها إلى سواحل اليونان إلى آخر برنامج الرحلة الذي بات معروفا لدى الجميع.

تتناقل الأخبار قصص عائلات فقيرة باعت كل ما تملك للحصول على نفقات المغامرة أملا بالعيش والتكاثر في بلاد تعاني نقصا في اليد العاملة وتدنيا كبيرا في نسبة مواليد السكان الأصليين، وهذه الأخيرة آفة معصوم منها عالمنا العربي في زمن السيل وغُثائه.

طرابلس ليست المدينة الوحيدة في لبنان التي يخطف البحر أبناءها في هجرة سرية، لكنها الأولى من حيث عدد المهاجرين، تليها بيروت ثم صيدا وفق تقديرات محلية غير رسمية. لكن الجامع المشترك بين العائلات الهاربة هو أنها بمعظمها مسلمة سنية، فما هي أسباب هذا النزوح الديمغرافي إلى المجهول؟

أولا: احتلال طرابلس المركز الأول في الفقر على حوض البحر المتوسط لسنوات خلت، يدفع دائما بالأجيال الشابة من محدودي الدخل والأفق المستقبلي إلى البحث عن مخارج من واقع الحال، وغالبا ما تكون هذه الحلول وهمية أو خارجة على القانون. ولولا مكارم التكافل الاجتماعي داخل المدينة ربما كانت تربّعت على عرش الفقر العالمي، فهي أكبر تجمع سكاني في لبنان نسبة إلى مساحتها وتعاني تهميشا إنمائيا واقتصاديا مزمنا منذ انفصال لبنان بعد اتفاقية سايكس بيكو عن محيطه الطبيعي في سوريا ورفض طرابلس في تلك المرحلة هذا الانفصال بقيادة مفتيها عبد الحميد كرامي.

ثانيا: مثل أي عاصمة تجتذب بيروت رؤوس الأموال والموارد البشرية والتجمعات السكانية العشوائية في تزاحم رفع من نسبة المهمّشين من أبناء العاصمة، ومعظمهم من الطائفة السنية، ما جعل إمكانية تملكهم شقة سكنية صغيرة في بيروت على سبيل المثال بمثابة حلم.

ثالثا: تعتبر صيدا، المدينة اللبنانية الثالثة وذات الأغلبية السنية، فقيرة الموارد ولطالما اعتمدت بشكل أساسي على المداخيل المالية لأبنائها المغتربين ولا سيما في المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج الذي بدأت دوله منذ مدة بخَلجَنة قطاعاتها الإنتاجية والاستغناء ما أمكن عن الأيدي العاملة الأجنبية.

رابعا: نزوح مئات الألوف من الأشقاء السوريين وتمركز معظمهم في المدن المذكورة والبقاع الشمالي، طرح في أسواقها المزيد من الأيدي العاملة التنافسية من حيث الكلفة، وبات العامل اللبناني عاجزا عن منافسة نظيره السوري.

خامسا: تدني مستوى أمل اللبنانيين بالطبقة السياسية الحاكمة التي باتت عاجزة حتى عن تجديد نفسها وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، فضلا عن شلل حكومي تام وعجز إداري وتنموي كبير.

سادسا: انتشار مافيات الهجرة غير الشرعية في المدن اللبنانية الكبرى ولعبها على وتر حاجات الناس وأحلامها.

سابعا: أصبحت "طرابلس الكبرى" أي بما فيها امتدادها الشمالي إلى عكار منطقة مجاورة لروسيا التي يخيم جيشها قرب الحدود في طرطوس وفي اللاذقية، كما أصبح البقاع الشمالي على تماس مع نفوذ إيراني يتخذ أشكالا عدة ليست دائما محلية. وهذا يولّد لدى الرأي العام اللبناني السني شعورا بالخوف من المجهول بعدما شاهدوا على الشاشات مدنا سورية تُسوّى بالأرض مثل حمص والقصير في ما بات يُعرف برسم حدود الدم الجديدة في الشرق الأوسط. إلا أن هذه النقطة وإن كانت الأهم في حسابات النخب السياسية والاقتصادية، لكنها ليست الدافع الأبرز لهجرة الفقراء عبر مراكب الموت.

لطالما سَخِرت الشوفينية اللبنانية العنصرية من الهوية السورية، لكن لبنانيين بالآلاف يدفعون الآن مئات الدولارات ثمن بطاقة هوية سورية مزوّرة يطرقون بها أبواب اللجوء في أوروبا على متن قوارب تتساوى فرص النجاة من الغرق فيها بفرص اللاعب بمسدس الروليت الروسية، إذا نجا المركب في رحلة أو أكثر فإن رحلة أخيرة مكتوبة على جبينه.. إنها قوارب الروليت السورية.
التعليقات (0)