كثيرون في بيروت يعتقدون أن
لبنان عصي على
التقسيم الذي ظهرت نُذُره في
العراق ومنه يتمدد لباقي دول الجوار، تفشيا كبقعة الزيت لرسم خارطة جديدة للشرق الأوسط بعد نضوج معالمها لدى القوى الاستعمارية الجديدة، التي احترمت طويلا مِبضع السيدين سايكس وبيكو الدبلوماسيين الممثلَين للاستعمار الأوروبي العجوز، ويعزو الواثقون بديمومة وحدة الكيان اللبناني تفاءلهم إلى خمسة أسباب:
أولا: إن الـ 10452 كلم2 التي تُشكل مساحة لبنان الرسمية، هي بكمالها أصغر من مساحة أي دويلة مقترحة وقيد الولادة من جبال اليمن إلى شواطئ
سوريا، وإن تقسيمها يؤدي للحصول على بلديات وليس دويلات.
ثانيا: إن مشروع تقسيم لبنان قد يتبين كيف يبدأ لكن أحدا لن يعرف كيف ينتهي في ظل التنوع المذهبي المتنافر والمتشكل من 18 طائفة، حيث ستجد كل جماعة روحية كبرى (وفق التصنيف اللبناني الميكروسكوبي) نفسَها مهزومة ومضطهدة إذا لم تنشئ كيانها الخاص، فيصبح معيار التوازن أن تبرز دويلات لكل من السنة والشيعة والدروز والموارنة والأرثوذكس، وربما أيضا للأرمن والفلسطينيين.
ثالثا: إن التداخل الديمغرافي على الأرض اللبنانية يجعل من الصعب إجراء عمليات تنقية طائفية في المحافظات دون مشاريع ترانسفير، بعد حروب ومجازر ليست ضمن روزنامة أي فريق من اللبنانيين حتى الآن، علما أنهم فعلوها مرارا في السابق بحق بعضهم البعض وما تزال وزارة شؤون المهجرين قائمة حتى الآن في الحكومة اللبنانية.
رابعا: حاجة اللاعبين الإقليميين إلى مركز استقرار في المنطقة تجعل لبنان مرشحا لأن يكون دولة متماسكة، من أجل استخدام مرافقها ومرافئها الجوية والبحرية والبرية في عمليات التواصل والاتصال المطلوبة في التسويات السياسية.
خامسا: إن تقسيم لبنان في ظل موازين القوى المحلية الراهن يعني عمليا إنشاء دويلات خاضعة لنفوذ
حزب الله وإن تنوعت الهويات الطائفية لهذه الدويلات، وهو نفوذ يتعارض مع روح القسمة الغربية الجديدة القائمة على كيانات متناقضة، لديها الحد الأدنى من تكافؤ القوة بما يسمح بتحول كل منها إلى كيانٍ يعيش حالة استنفار عسكري دائم في مواجهة جيرانه.
وانطلاقا من هذه النقطة الأخيرة يرتسم السؤال أمام المبشرين بوحدة لبنان، هل سيكون إذن بسيطرة حزب الله عليه جزءا من "أرخبيل" ولاية الفقيه الإيراني؟ فيجيبون بالنفي القاطع لأسباب تتقاطع مع ما ذُكِر ولأسبابٍ أخرى، ويؤكدون أنهم يلتقطون من الأمريكيين إشارات واضحة بوجوب إجماع اللبنانيين على دعم جيشهم الوطني، بحيث يكون القوة العسكرية الوحيدة التي تبسط سلطتها بإجماع مكونات البلد، ويقرأ ملتقطو هذه الإشارات بأن هذا الإجماع يتطلب صلاحيات استثنائية لقائد الجيش، تصل إلى مستوى صلاحيات رئيس الجمهورية في دستور ما قبل اتفاق الطائف، حين كان النظام رئاسيا قبل نشوب الحرب الأهلية عام 1975 على خلفية اعتراض فئات واسعة من اللبنانيين، على ما اعتبروه في حينه هيمنة للطائفة المارونية على حكم البلد، فيما يعتبر آخرون أنها كانت حربا للآخرين على أرض لبنان.
ودعمُ الجيش توجهٌ واضح لحلفاء واشنطن في المنطقة تجلى بقرار المملكة العربية السعودية تخصيص ثلاثة مليارات دولار في آب أغسطس الماضي لشراء أسلحة من فرنسا، تُقدَّم هبة لجيش لبنان من أجل مساعدته على محاربة "المجموعات الإرهابية"، في ظل سوء الوضع على الحدود السورية اللبنانية وخصوصا في منطقة عرسال الجبلية بحسب ما أُعلن في حينه، علما أن دوائر حزب الله رأت بالمبادرة السعودية جهدا جديدا من الرياض لمحاولة إضعاف قوته المتعاظمة بالاختباء وراء عنوان دعم السلطة الرسمية. والمليارات الثلاثة المخصصة من الجهة الواهبة للشراء من الصناعات العسكرية الفرنسية حصرا تعثر صرفها دون أسباب واضحة، ما فُسر بأن وقفيتَها أوقفتها وأدخلتها في التسابق الأمريكي الروسي الفرنسي على عقود التسلح في المنطقة، ومن الممكن الآن إدخالها بما يشبه "فراطة العملة" ضمن المقاصة المالية العظمى لصنع عُجة الشرق الأوسط الجديد بعد تكسير بيضه.
لكن هل سيستسلم حزب الله بهذه السهولة إلى فكرة إنهاء دوره العسكري؟ من السذاجة الإجابة بنعم، لكنه أي الحزب وفوقه إيران أثبتا منهجية براغماتية متعقلة تؤهلهما لتقدير صحيح للأحجام في لعبة الأمم، وللقبول بتحصيل غنائم الحرب بالجملة وليس بالمفرق، وبالتالي احترام النفوذ الجديد في الشرق الأوسط الذي لم يكن يوما منذ الحرب العالمية الأولى لصالح قوى إقليمية، بل لصالح قوى دولية تستعين بشرطيِين إقليميين، ويعتقد متبنو فرضية "أبدية" وحدة لبنان بأنه كما رحب حزب الله بالدور الروسي المستجد في سوريا برغم كل الدماء التي بذلها وما زال وأنهكته، فهو لن يتوانى عن الترحيب بمخرج مماثل للبنان يضمن له أمنه ومصالحه. ولبنان الصغير في حجمه صاحب "سلوغونات" (أكبر من بلد.. إنه رسالة) و(أكبر من أن يُبلع وأصغر من أن يُقَسّم) و(قوة لبنان بضَعفه)، ربما يكسب "سلوغونا" جديدا في قادم الأيام يروج لعدم قابليته للتقسيم تحت شعار (سعةُ لبنان بضيقه)، ودائما بحسب المتفائلين، وأنا حتما لست منهم.