استعرض المقالان السابقان حالة الحشد السابقة على التظاهرات، ثم تطور حجمها عقب 30 حزيران/ يونيو 2013 حتى فض رابعة العدوية، ثم تغير الحشود عقب الفض، حتى نجاح الأمن في تفريغ مراكز الثقل من مظاهر التجمعات الحاشدة، ثم تحول المسار تدريجيا نحو العنف، وما تم سرده فيهما نخلص منه إلى التالي.
الحراك بالشارع يشير بجلاء إلى عدة أمور: أولها أن أي ربط لتفسير انخفاض المشاركة بالقمع الأمني تفسير مغلوط؛ فالقمع عندما كان في أشده لم يتوقف الرافضون لسياسات نظام يوليو عن الاحتجاج رغم توقع "القتل" في أي لحظة، فلا تلازم بين الخوف والإحجام بل ما سبق ذكره في المقالين الآخريْن أرجح في تفسير أسبابه.
الأمر الثاني أن هناك فارقا بيّنا بين تظاهرات ما قبل أكتوبر بمرحلتيها وما بعدها، فبعد الفض كانت التظاهرات غاضبة إلا أن الألم والانكسار -فيما يبدو لي- كانا أكبر وربما كانت مساحة العنف من قِبلهم محدودة في ظل الحشود الضخمة لأن الحشد كانت يساهم في دفع الأمل لإنهاء الانقلاب بالطرق السلمية، أما التظاهرات الحالية -المضيّق عليها- فهي غاضبة غضبا عارما مع عنف، وما من مكان تمت فيه مواجهة مع تابعين للأمن إلا وتتم مهاجمته عند أول مسيرة تمر بالمكان ويعلو عند "التعامل مع البلطجية" هتاف (البلطجية ملهمش ديّة) أي أنه لا قيمة للبلطجي الذي يتواطئ مع النظام بالإرشاد أو الاشتباك، وما حدث من إعدام أحد المواطنين بزعم عمله مع الأمن يبعث على القلق الشديد من مساحة الانحراف الفكري والسلوكي، كذلك هناك فارق المرحلة العمرية، فالتظاهرات الأولى كانت تحفل بالشباب بالأساس ثم المراحل العمرية الأخرى مع وضوح مشاركة من جاوزوا مرحلة الشباب، أما "الفراشات" فالأبرز مشاركة المراهقين وأغلب الاشتباكات يتصدرونها، وذلك مفهوم بسبب العنف والوحشية الذين لاقوهما، وكذا طبيعة المرحلة العمرية نفسها التي تفتقر للكثير من عوامل الضبط، ودخول المراحل العمرية الأصغر تشير إلى أن حسم الصراع لن يكون سريعا بل ممتدا إن ظل الوضع مستمرا على حاله.
الأمر الثالث: أن هناك تزحزحا واضحا في كتلة الطرف المؤيد لنظام يوليو وانتقاله إلى الطرف الرافض له، أو في أقل الأحوال رفع يده عن التأييد ورفض التورط معه في الدم، وربما كانت أولى الإشارات ضعف المشاركة فيما سُمي بـ "جمعة التفويض" أواخر يوليو 2013 مقارنة بشهر واحد سبقها، وآخرها جمعة التفويض الثانية -منذ أشهر قليلة- والتي لم يشارك بها سوى عدد محدود جدا، وفي المقابل تبقى كتلة رافضي الانقلاب/ السلطة الحالية صلبة بل وتتعاظم بشكل ملحوظ، سواء كان ذلك لأجل دعم مرسي، أو رفضا لممارسات الدولة القمعية، أو تذمرا بسبب الأحوال المعيشية.
أخيرا هذا الصراع بحالته يفتقر لرؤية ناجعة لإنهائه بشكل يساهم في بداية البناء لعودة لمسار الديموقراطي ووقف انتهاك الحقوق والحريات والإعدامات بالشوارع، فالحفاظ على الأرواح مطلوب بقدر استعادة المسار، وليس مقبولا أن يستمر مسلسل إهدار الأرواح أو الحريات بتعريض الرافضين لمسار دولة يوليو لقمعها بتلك الطريقة التي لا طائل منها، ووفقا للمشاهَد من ممارسات الاحتجاج وقوتها أن المجتمع راغب وقادر على الانتفاض لإزاحة النظام، لكنه يبغي الاطمئنان إلى جدوى مآل حركته، وهو الأمر الذي لم يتوفر، كما تحتاج أطراف أخرى للاقتناع بفساد السلطة الحالية، ومعركة الوعي لا تزال غائبة ومهمشة والصوت الأعلى للمقارعة والمناطحة، وكأن الثأر يتحكم، لا الأصلح للوطن.
كذلك تحتاج الحالة المصرية لإنهاء الأزمة برشد، لا أن تنتقل لصورة أشد انقساما وتشرذما، ولا أن نستمر في صراع يخسر كل أطرافه وبالتبعية يتضرر أكثر الوطن، ولا بد أن يعي الجميع أن التعدد سيبقى، ولا يمكن استئصال جزء من المجتمع مهما كان الخلاف عميقا، ولا تلازم بين عقوبة المخطئ المجرم وبين التعايش مع المختلف.
إن غياب الرؤية أو حتى المسارات أثّر بشكل كبير على الحشود التي انخفضت لأدنى مستوياتها هذه الفترة، وربما أمكن البناء على ما طرحه المرشح الرئاسي الأسبق د. عبد المنعم أبو الفتوح كأحد مسارات إنهاء الأزمة.
لا بد من الأخذ في الاعتبار أن أي غلبة بالقوة -في المرحلة الحالية- لن تتيح للمتغلب حكما هانئا؛ فالتكتلان -اجتماعيا لا بالنظر للقوى الفاعلة- في حالة خصومة وعداء شديدين، ولن يكون مقبولا وجود أي طرف على حساب الآخر في ظل حالة الاستقطاب التي وصلت منحنى خطرا فجعلت كل طرف يخاطب أنصاره بقوله: "إحنا شعب وهم شعب".