نجاح الانقلاب لا يستلزم الكثير من الجُهد من جهة المنقلَب عليه، أي إرادة الجماهير، بل يتطلب أولا غياب ردّ الفعل والرضى بالأمر الواقع وقبول حكم " الحاكم المتغلَّب "، وهو قبول قائم على تصديق خطاب الانقلاب المقنّع بقناع الثورة والتصحيح.
في المقابل، يقوم خطاب الثورة ومقاومة الانقلاب على تجنيد كل الطاقات البشرية الممكنة وتفعيل كل الشروط الاجتماعية التي تستنفر أعمق أعماق الوعي وأصدقها عند الإنسان. الانقلاب المصري المسلّح، والانقلاب التونسي الناعم، والانقلاب الجاري في اليمن، وفي ليبيا بدرجة أقل، هي أكثر تجليات الثورات المضادة وضوحا في المشهد الذي بدأ الغبار ينزاح عنه شيئا فشيئا.
صحيح أن العتمة لا تزال تميز الكثير من المناطق والزوايا في المشهد العربي الساخن، حيث لا تكاد الحركة تنفك عن تعقب ما قبلها وإلغائها، مما لا يسمح بالاستنتاج المطلق والقول النهائي الفصل، لكن السنوات العجاف التي أعقبت ثورات الشعوب العظيمة بدءا بفجر السابع عشر من شهر أيلول/ سبتمبر 2010 في ريف تونس الفقير، وصولا إلى اندلاع الثورة السورية اليتيمة، يمكّن أولا من تلمّح الكثير من الحقائق التي كانت تعدّ قبل الانفجار التونسي الكبير أوهاما وأضغاث أحلام، ويدفع ثانيا إلى إلغاء اللامتناهي من المسلمات.
الانقلاب المصري هو أكثر الانقلابات العربية وضوحا وسطوعا؛ إذ يستنسخ في غباء عسكري معتاد نماذج الموت التي أدمت خاصرة العالم الثالث خلال القرن الماضي من أدغال أفريقيا إلى أعماق أمريكا اللاتينية مرورا بتركيا واليونان. فالانقلابات السابقة كانت دائما مقنّعة بمساحيق "الثورة " انقلاب الضباط "الأحرار" في مصر وانقلاب القذافي، وأصباغ "الحركات التصحيحية"، انقلاب الأسد على زملاء الكفاح و فجر "التحول المبارك"، انقلاب بن علي الطبي على العجوز بورقيبة، وهو ما سمح لها بفضل توفر الكتائب الإعلامية والأيديولوجية من تجار البنادق والأفكار بإسدال ستار كثيف من الوهم والإيهام صدقه كثير من الناس، وتاجرت به النخب العربية ولا تزال إلى اليوم.
في مصر، لم تتمكن الكتائب الإعلامية وفرق الموت المثقفة من تمرير الانقلاب في صورة ثورة ثانية بعد انقلاب 1952، فرغم كثافة المساحيق التي تأسست على شيطنة المكون المحافظ -الإخوان المسلمون أساسا- والفائز الشرعي في الانتخابات بشهادة "العم سام" -نصير الديمقراطية في كل مكان- فإن وقاحة الانقلاب ودمويته المفرطة أذهبت كل المساحيق، وأسالت كل الأصباغ والدهون على سماكتها، بل أذابت عشرات المليارات في هوة الفساد السحيقة، حيث تختفي دولة الاستبداد الحقيقية. هناك تقع هوّة "داعس" المرعبة هناك دولة الاستبداد وعصابة السرّاق" على حد توصيف الأحرار في تونس وهي، أي "داعس"، تمثل المموّل الرسمي والباعث الحقيقي لتنظيم داعش الذي لا يشكل إلا أصغر أحفاد "داعس" وأكثرهم رومانسية بالمنطق الدموي للرومانسية.
لكن في المقابل وفّر القصف الإعلامي المكثف على الوعي المصري والعربي القاعدي والخارج للتو من دهاليز الاستبداد وطقوس عبادة الفرد والتسبيح بحمد القائد غطاء مكّن رغم الثقوب التي تملأ جوانبه من تخدير الوعي العام، وذلك عبر وسائل أهمها:
أولا: شيطنة الخصم السياسي بسلاسل لا تنتهي من الأكاذيب التي تمتد من "بيع سيناء" و"بيع الأهرامات" إلى "التسبب في سقوط الأندلس"، وهي روايات لا تستهدف الوعي المتوسط والمتقدم، بل تسعى إلى ضرب المخيال القاعدي للمواطن المصري، وهو وعي أُجدب بفعل سنين الشحن بكل وسائل التغييب والتعتيم والإثارة والتنويم من مسلسلات وكرة قدم وأغان... وكل الأشكال التي تؤثث الفضاء الرمزي للوعي الجمعي.
الشيطنة استفادت كذلك من روافد عديدة، منها العداء الأيديولوجي، ومنها المصالح الطبقية والاقتصادية داخليا، والعداء الأصيل خارجيا لكل نفَس محافظ قد يهدد أمن الكيان الصهيوني ويوقظ المارد المصري وجرّار الوطن العربي من سباته الطويل.
ثانيا: الترويج لنظرية المؤامرة واستنفار مقولة الوطنية الكلاسيكية في الخطاب الرسمي المصري التي تستند في الأساس على تأليه دور العسكر، باعتباره الحصن المتين لمصر وللعروبة -خير أجناد الأرض-.
في تونس كذلك، قام الناعقون بتحريك المكاسب الحداثية للمرأة التونسية، ووضعها على لائحة المكاسب المهددة بفعل الزحف الإسلامي القادم، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع ما تعانيه المرأة التونسية من مآس لا تحصى، آخرها تهمة " جهاد النكاح " التي أستبسل فرع اللسانيات التابع للمخابرات الإيرانية والموصول بفقه الولاية في نحتها ونثرها على قنوات الصرف الصحي الفضائية التابعة له.
ثالثا: الإيهام بالمشاريع الكبرى، وهي طقوس استبدادية قديمة دأب عليها النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا خلال فترة ما بين الحربين، فالمدينة الجديدة وتفريعة القناة كلها تندرج في إطار خطة إظهار النظام بمظهر القادر على الإنجاز والفعل، وهي إجراءات تضفي على اللاشرعية شرعية الإنجاز كالسد العالي وبحيرة ناصر وحرب أكتوبر، وهي كلها إنجازات وهمية تخفي ما تخفيه من عجز ووهن وصفقات مفجعة غير بعيد عنها نهر القذافي الصناعي العظيم.
فخلال هذه الفترات الذهبية من تاريخ الشعوب أنجزت سنغافورة وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا قفزات اقتصادية عملاقة، في الوقت الذي كانت فيه مصر بدءا متقدمة على هذه الدول خلال نهاية الأربعينات.
رابعا: الحرب على الإرهاب -الإسلامي بطبيعة الحال- وهي أكثر الذرائع فعالية دوليا؛ لأنها تنخرط في حرب عالمية على " الشبح " الذي يهدد الأرض ومن عليها بالذبح والدمار. فصور القتل وألوانه وأساطير التصفية والاغتصاب التي لا تنتهي ومشاهد حرق الأحياء كلّها مجندة لتبرير الانقلاب والتشريع لعودة العسكر، بل يخرج "قاتل الأطفال في عربات الترحيل"، منقذا للأمة ومخلصا لها من هول ما ينتظرها على يد أعداء الوطن من الإرهابيين.
لعل أكبر نجاح لخطاب الانقلاب هو إيهام الناس بأن الانقلاب حدث على هذا الفصيل السياسي أو ذاك، لا على ثورة يناير الخالدة، في حين أن المستهدف من رقصات العسكر الأخيرة في الأرض العربية هي "قدرة الشعب على إسقاط النظام"، وهو ما لم يغفره سدنة القمع لجموع "الحرامية "، كما وصفوهم.
الانقلاب المصري فشل حقا، وهو في طريقه إلى الانكسار بفعل منطق التاريخ وحتمية الصيرورة الاجتماعية، ونهاية إمكان إحياء المنوالات الانقلابية العسكرية، لكنكَ يمكن أن تُنجحه بشرط واحد، وهو أن تصدّق خطاب الانقلاب، لأن أكثر الناس جزعا اليوم، وأشدهم وعيا بقرب النهاية هم الانقلابيون أنفسهم... وعبر التاريخ.