قضايا وآراء

متى يتوقف العرب عن عبادة الأصنام!

خالد سليمان
1300x600
1300x600
واهم تماماً من يظن بأن عبادة الأصنام قد اختفت من دنيا العرب. فالأصنام الحجرية التي كانوا يخرون لها سجداً في جاهليتهم، قبل أن يمن الله عليهم بالإسلام، وكانت تعبر بالنسبة لهم عن رموز تتمتع بالقداسة، تحولت في أيامنا، بفعل تقدم التكنولوجيا، إلى صور لشخوص يتبركون بهم، ويعلقون رسومهم على جدران بيوتهم ومكاتبهم ومواقع تواصلهم الاجتماعي. والواقع إنهم لا يفعلون ذلك من قبيل تكريم أولئك الشخوص وتذكرهم فقط، من باب الوفاء لهم، فهذا شيء مقبول ولا ضير فيه، ولكنهم يفعلونه وهم يضفون هالة من التقديس الخرافي عليهم، باعتبارهم كائنات سامية مميزة تجسد رموزا خالدة للقوة والعزة والفضل والقيادة والتوجيه، حتى بعد رحيلهم عن الدنيا.

قبل أشهر حدث أن أستاذة جامعية في أحد البلدان العربية الموصوفة بالاعتدال تعرضت للتحقيق والإهانة والاضطهاد لأنها رفضت تعليق صورة لحاكم الدولة في مكتبها. وأظنكم جميعا قد شهدتم بعض السفهاء على وسائل الإعلام وهم يسجدون فعلا لصور حكامهم الطغاة، مثل القذافي ومبارك والسيسي والأسد. ومؤخرا، تعرضت أنا شخصيا لوابل من الشتائم البذيئة على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي، لتشككي بوطنية زعيم عربي باع قضيته وارتمى في أحضان عدوه، وحول مقاتليه إلى كلاب حراسة لذلك العدو إزاء أية مقاومة ضدهم، بل إن بعض عبّاد ذلك الزعيم أبدوا استعدادهم الحرفي، في سياق مناكفتي، للسجود له، باعتباره "خطاً أحمراً مقدساً" لا ينبغي أن يمس بحال من الأحوال!

 لن أسهب طويلا في الحديث عن أن مثل هذا النوع من التقديس الأعمى للأشخاص يدخل في باب الشرك، لكنه كذلك بالفعل. فالولاء أولا وأخيرا بالنسبة للمسلم ينبغي أن يكون لله ورسوله، وأشك تماما أن يكون ولاء عبدة الزعماء العرب لله ورسوله في شيء، بل إنني لا أستبعد نهائيا أنهم على استعداد لشتم الذات الإلهية أو قذف الرسول غضبا من إهانة أولئك الزعماء، أو أنهم يحلونهم على الأقل في مكانة أهم بكثير على سلم أولوياتهم من المكانة التي يفردونها لله ورسوله! بل ولقد وصل الأمر بأمثال هؤلاء، كما شهدنا في سوريا، وهذا موثق إعلاميا، أن يأمروا خصومهم وهم تحت التعذيب بأن يشهدوا بأن لا إله إلا بشار الأسد! ومع أن أصدقائي العلمانيين واليساريين قد يستاؤون من كلامي، إلا أنهم يعرفون تماما بأن الزعيم والقائد التاريخي الأسطوري الملهم الفذ في أدبياتهم وسلوكياتهم هو أهم بمليار مرة من الله ومن كل أنبيائه، هذا إن اعترفوا بوجودهم من الأساس.

ولكن دعونا من البعد الديني، ولنركز قليلا على التداعيات السياسية لظاهرة عبادة الزعماء. كارثية حتما هي تلك التداعيات، إذ أزعم أنها من الأسباب المركزية مثلا لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. فلم تكن الطوائف المتحاربة غالبا تتناحر من أجل قضايا عادلة، قدر تصارعها من أجل أمجاد ومكانات وامتيازات ونزوات زعمائها، الذين يمثل واحدهم رمز الطائفة وسيدها وربها الآمر الناهي الذي لا يخطئ أو يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه! بل إنني أزعم أن قدرا كبيرا من المسؤولية عن انتكاس الربيع العربي يمكن عزوه لتلك الظاهرة أيضا. فلولا علاقة التأليه المريضة بين كثير من الناس وحكامهم، لكان من السهل كثيرا تنحيتهم مجبرين عن السلطة التي يسطون عليها. ولكن ذلك بدا عسيرا ومستعصيا للغاية، في ظل عبادة كثير من الجهلاء لزعمائهم، واستشراسهم في الدفاع عنهم وعن بقائهم، تحت إطار شعارات مختلة تماما من قبيل: "إما الأسد أو نحرق البلد"! 

ومع الأسف الشديد، الفلسطينيون يقعون أيضا تحت مصيدة تلك الظاهرة بشكل ملحوظ. فهم يؤلهون قادتهم، ويفترضون فيهم العصمة والقداسة والسمو فوق مستوى الشبهات، مهما فعلوا! ذلك التوجه الخطير البائس يشكل ولا شك خنجراً مسموماً منغرزاً في قلب مسيرة النضال الفلسطيني، حال وسيحول دائماً بالضرورة دون استكشاف الأخطاء وتصويبها وتفادي تكرارها والغلو فيها ومحاسبة المسؤولين عنها، وهو ما سيجهض تماما فرص نجاح تلك المسيرة وتمكنها من النصر والتحرير. فمثلا، أثبتت الأحداث لكل من به بقية من بصيرة، ودون أدنى مجال للشك، أن توقيع معاهدة أوسلو كان خطيئة حقيقية بكل المعايير والمقاييس، قد ترتقي إلى درجة الخيانة العظمى التي لا تغتفر، بالنظر إلى ما أسفرت عنه من نتائج كارثية وخيمة من قبيل الاعتراف بالكيان الصهيوني، ومصالحته، بل والتعاون معه ضد المقاومة، والتنازل عن الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني في العودة وفي أراضيه التي اغتصبت منه عام 1948. إلا أن الكثير من الفلسطينيين ما يزالون يرفضون الإقرار بذلك، ويأبون تحميل قادتهم الذين وقعوا تلك المعاهدة المشينة أدنى مسؤولية أو لوم أو تثريب، ملتمسين ومختلقين لهم الأعذار والمبررات. لا بل ووصل الأمر بالبعض إلى محاولة تجميل تلك الاتفاقية البشعة، وتصويرها كإنجاز نضالي ينم عن عبقرية ووطنية متوقدة لموقعيها، بحيث يمكن اعتبارها نصرا تاريخيا مهولا للشعب الفلسطيني، يستدعي كل الفخر والاعتزاز!

الزعماء هم بشر وليسوا آلهة، يصيبون ويخطئون ويضعفون ويَفسُدون ويخضعون لكل ما قد يخضع له البشر من بواعث الطمع والأنانية والكبر والعناد والتسلط...الخ. فإن لم ندرك ذلك ولم نتوقف عن النظر إليهم نظرة ساذجة متوهمة ترفعهم فوق مصاف البشر وتتغاضى عن سيئاتهم، ولم نخضع قراراتهم وسلوكهم لمباضع النقد والتحليل والتشريح، حكمنا على أنفسنا بأن نقع أسرى العبودية الشالة لهم، وأن نظل ندافع ببلاهة واستسلام عن أخطائهم، مع أننا قد نكون في مقدمة المتضررين منها! وبالرغم من وجوب تكريمهم والاعتراف بفضلهم نظير جهودهم وتضحياتهم، إلا أنهم يظلون في المقام الأول والأخير مجرد خدم لشعوبهم وقضاياها، وموظفين عند تلك الشعوب، ينبغي أن تتحدد طريقة معاملتهم ومكافأتهم، حسب مستويات أدائهم وإخلاصهم ونجاحهم في أداء المهام التي نصبهم الناس لأدائها، أو قرروا هم المبادرة والتصدي للقيام بها. بعيدا عن كل مظاهر التقديس والتفخيم التي لا يستسيغها أو يعلي من شأنها إلا أصحاب النفوس المنحرفة المغرمة إما باستعباد الآخرين أو الخضوع لعبوديتهم!
0
التعليقات (0)