كتاب عربي 21

مرسي للورنيش وصناعة الفنكوش

طارق أوشن
1300x600
1300x600
يصل مرسي مالك مصانع الورنيش إلى القاهرة بحثا عن وكالة دعاية لإطلاق حملة إعلانات لمنتجات شركته، فينتشر الخبر بين الوكالات الراغبة في الفوز بالصفقة الكبيرة. ينحصر أمر الفوز بالصفقة بين شركتين هما "أوسكار للدعاية" و"حسن وحسني وحسنين للإعلان". وبالرغم من أن الشركة الأخيرة تحمل في ثنايا اسمها التجاري اسم "حسنين"، الراعي الرسمي لصفقات الحكم منذ أيام عبد الناصر، فلم توفق في نيل صفقة دعاية "مرسي للورنيش" التي رست على المنافس ممثلا في صلاح فؤاد، رمز الأعمال القذرة التي لا تراعي لأخلاقيات المهنة جانبا. سهرة ماجنة وحيدة كانت كفيلة بإرواء عطش مرسي من المجون/السلطة التي أرادها مجرد نقطة فانهارت عليه وديانا.

داخل كباريه..

صلاح فؤاد: مرسي بيه، احنا بنعيش لحظة تاريخية. كمان كاس يا أفندم؟

مرسي: نقطة واحدة لو سمحت.

وخلال نفس المشهد من فيلم "واحدة بواحدة"، المنتج سنة 1984 والمعروف بفيلم الفنكوش، بحث عن التقاء إرادتين حول شرعية تاريخية اتخذت من "أدهم الشرقاوي" والكفاح المسلح ضد المحتل الانجليزي ذريعة للاستدراج. ففي معركة "الفنكوش" لا محرمات بما فيها استحضار الرموز والشخصيات والأحداث التاريخية وتطويعها لخدمة الهدف المعلن والقائد الملهم، ادعاء لانتماء وطني لسلالة كافحت من أجل استرجاع الأرض والكرامة قبل أن يهدرها السلف ويسلمها للأغراب طوعا أو كرها.

وكما يقول صاحب شركة "حسن وحسني وحسنين للإعلان": مافيش قانون في البلد يمنع أن الواحد يعمل سهرة لزبون.

مرسي، صاحب مصانع الورنيش، بالمناسبة من الشرقية ومن بلد قرب بلبيس، وأي تشابه بين الشخصيات والأحداث بشخصيات وأحداث من الواقع محض صدفة أو ضرورة فنية.

معركة "الإطاحة" بمرسي لم تكن غير موقعة لم تشكل أساس أحداث الفيلم بل مجرد محفز لما يليها، بالنظر إلى سهولة الفعل وتوفر الكومبارس المشاركين في العملية مقابل جسد طري أو قوارير خمر ونبيذ. المعركة الحقيقية كانت في التسويق لـ"الفنكوش" الذي اكتشفنا مع مشاهد النهاية أنه مجرد مسكر من المسكرات التي يسعى من خلالها "النظام" إلى تغييب الشعب واستنزاف ما تبقى من قدرته الشرائية ومدخراته، لكن إلى متى؟

يصل علي بيه عبد الظاهر، رئيس مجلس إدارة شركة أوسكار للدعاية، إلى بيت صلاح فؤاد الممدد على فراش النوم.

علي بيه عبد الظاهر: صلاح! اسمع الكلمتين اللي حقولهم لك. أنا وصل إلى علمي يا أستاذ الأساليب المشينة اللي بتستخدمها في الشركة بما يسيء إلى مدير أوسكار للدعاية... أنا بأطلب منك تفسير فوري... دافع عن نفسك يا أستاذ (وهو يحركه بعصا يتكئ عليها). 

يستيقظ صلاح على وقع العصا فيكسرها ويرمي بها جانبا. وعندما يشتكي علي بيه من الأمر يبادره بالقول:

صلاح فؤاد: خلاص يا علي متعيطش. أنا حجيبلك واحدة غيرها... وهو مرسي ده اشتكى لك؟

علي بيه عبد الظاهر: أنا معرفوش

صلاح فؤاد: خلاص أنا حتصرف (وهو داخل المرحاض)..
 
قبل سنوات أربع وطيلة ما يقارب الثلاثة أسابيع رفع الشعب عصاه ملوحا بها باتجاه حاكم اعتبره فاسدا يستخدم أساليب مشينة في إدارة البلد، وعبثا حاول الحاكم في خطابات منتصف الليل الدفاع عن نفسه قبل أن "يقرر تخليه عن منصب رئيس الجمهورية". وقبل الرحيل "تصرف" من تلقاء نفسه في مصير البلد والعباد، وسلم رقاب المحتجين، أو الثوار، إلى مجلس عسكري أدى الناطق باسمه، وقتها، التحية العسكرية للشهداء قبل أن يرفع جنوده ومدرعاته منسوب الشهادة في الميادين المصرية إلى معدلات غير مسبوقة ولو في عهد "المخلوع". لقد صدق صلاح فؤاد حين وعد علي بيه بعصا جديدة بديلا عن عصاه القديمة المكسورة إلى حين. ولأن الواقع أكثر سوريالية من الخيال، في كثير من الأحيان، فقد عاش أصحاب "الشركة" حتى صاروا يسمعون من يعايرهم بأن القائد الملهم "سهران طول الليل علشان شركة الدعاية بتاعتك ده/ الوطن، وجايب لك عقد بـ 25 ألف جنيه علشان خاطر شركة الدعاية بتاعتك ده...". 

المشاريع الوهمية التي تلجأ إليها الأنظمة السلطوية العربية ليس بالأمر الجديد. فقد شهدت كل البلاد العربية، منذ "استقلالها"، موجة مشاريع "فرعونية" انساقت وراءها الجماهير وعلقت عليها الآمال بل صارت الناطق غير المعلن باسمها مدافعة ومنافحة عن فكر الزعيم الخلاق وعبقريته وسداد رأيه وحكمة حكومته "الرشيدة". لا فرق في ذلك بين دول المغرب أو المشرق فكلنا في "الفنكوش" سواء. وكانت النتيجة إهدارا للطاقات وللأموال على مشاريع لا تستجيب في الغالب إلا لغرور الحاكم ورغبته في "الخلود" في كتب التاريخ، لكن القدر أراد غير ذلك وكذلك كان. 

في ليبيا جرب القذافي وصفة النهر الصناعي العظيم بعد أن بشر بحكم الجماهير في كتابه الأخضر، فانتهى به المطاف "بطلا" لفيديو، من ثلاث دقائق، بكاميرا هاتف خلوي أرخت لنهاية مؤسفة.
 
وفي العراق، اهتم صدام حسين بالصاروخ العملاق وتكوين الجيش العظيم قبل أن ينتهي المطاف بأفراده هاربين بملابسهم الداخلية على ضفاف دجلة أو الفرات، وبقائدهم في فيديو، من دقيقتين أو ثلاث، بكاميرا هاتف جوال أرخت لنهاية مؤسفة رغم ما حملته من أنفة وعزة في مواجهة حبل مشنقة نصبت يوم عيد أضحى. 

وفي مصر، "فنكوش" لكل عهد من الغواصات والصواريخ الحربية التي تصل عمق الكيان الصهيوني إلى التنمية الزراعية في الدلتا فالعاصمة الجديدة و"تفريعة" قناة السويس الجديدة التي تحتفل مصر اليوم بانطلاقتها.

وفي بقية البلاد مشاريع وهمية أو غير ذات جدوى اقتصادية رهنت حاضر ومستقبل الأجيال لعقود من سقي المليون هكتار بالمغرب إلى بناء قوة اقتصادية كبرى بالجزائر وهلم عناوين كبرى تسبح في الفراغ بميزانيات فلكية بعضها يدبر باكتتابات من مدخرات الشعوب مع الوعد بعائدات يسيل لها اللعاب حد المساهمة في تمويل بهرجة حفلات الافتتاح.

بعد انكشاف كذبة "الفنكوش" يعود علي بيه عبد الظاهر وصلاح فؤاد إلى مقر الشركة لتدبر الموضوع والبحث عن مخرج.

علي بيه عبد الظاهر: كده غلط، كده غلط. انت كده بتفكر بالشقلوب. انت كده كأنك بتحط العربية قدام الحصان. عادة الواحد بيعمل السلعة وبعدين بيعمل لها الدعاية مش العكس.

صلاح فؤاد: انت كده يا علي ما شاء الله اخترعت أسلوب جديد للدعاية. وده أحسن دليل على قوة الدعاية أنك تبيع سلع أساسا ملهاش وجود لمجرد نجاحك في حملتك الدعائية أيام مكنش ليها وجود. انت فاهم؟

علي بيه عبد الظاهر: لأ، ومش عايز أفهم.

بعدها يطلب صلاح فؤاد أموالا ويتواصل مع الدكتور أيوب لاختراع أي شيء ينفع تسميته "فنكوشا".

علي بيه عبد الظاهر: ده مينفعش. متقدرش تشتريه بالفلوس، لأنه ده من النوع ايلي عندو مبادئ.
لم يتمالك "صاحب المبادئ" نفسه أمام إغراءات المال، فقبل المهمة وقبلها نطقها مدوية:

الدكتور أيوب: أنا حاسس إنه بينضحك علي، بس تعرف ده إحساس لذيذ.

وعندما نشاهد ونسمع كيف ينبري كثير من "أصحاب المبادئ" للدفاع عن "التفريعة" الجديدة واعتبارها فتحا ومشروعا من "أم الدنيا لكل الدنيا"، نعلم أن الدكتور أيوب لا يزال بين ظهرانينا يمشي ليس في الأسواق بل بين بلاتوهات التلفزيونات المفتوحة على مصراعيها للمطبلين و"عباد" الفرعون. الكارثة أن أساليب التسويق لـ"الفنكوش" لم تتطور قيد أنملة منذ فيلم "واحدة بواحدة" منتصف ثمانينيات القرن الماضي وما قبلها.

هريدي: هو عادة يا أفندم، الأستاذ صلاح يبدأ بالتلفزيون. بيغرق الدنيا بإعلانات التلفزيون وطبعا علشان يحرك المسائل.

علي بيه عبد الظاهر: انس الأستاذ صلاح خالص. الحملة ده حتتم بطريقتي أنا. بطريقتي الخاصة. اكتب عندك.

هريدي: أيوه يا أفندم.

علي بيه عبد الظاهر: من الأحسن إننا نبدأ بالتلفزيون. نغرق الدنيا بإعلانات التلفزيون علشان نحرك المسائل شوية.

هريدي: خلاص يا أفندم، حاتصل بالتلفزيون حالا دلوقتي.

علي بيه عبد الظاهر: عفارم عليك. عايزك تختار أحسن الأوقات. إعلانات الفنكوش لازم تشوفها الناس صبح وظهر وليل وحتى بعد ما يناموا. لازم مصر كلها تعرف إن الفنكوش وصل.

في لحظة كذب وتآمر بين صلاح فؤاد والراقصة زيزي، ولد "الفنكوش" وصار إعلانا قبل الإنتاج، وهو إعلان" محصلش قبل كده ومش حيحصل بعد كدة" بحسب صلاح، فبثته كل القنوات واحتل كل الواجهات.

وباعتماد الطريقة ذاتها لم تخل القنوات المصرية كلها من التبشير بـ"قناة السويس الجديدة" منذ أشهر  قبل أن تتصاعد الوتيرة في الأيام الأخيرة في انتظار حفل الافتتاح "التاريخي" اليوم.

من حق مصر أن تفرح، كما ترفعه كل القنوات الفضائية الرسمية منها و"الخاصة" وسما وشعارا منذ أيام، أليس اليوم يوم خميس على كل حال؟
التعليقات (0)