في علاقة الإسلام بالدولة والسياسة والقانون، هناك -في واقعنا الراهن- من يسعى لإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه وتسويقه واستهلاكه، بل والتراجع عنه وتشييعه إلى ذمة التاريخ!
ففي عام 1925م نشر الشيخ علي عبد الرازق (1305- 1386هـ، 1887- 1966م) كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي جاء أول محاولة -من داخل الإسلام- لعلمنة الإسلام، والذي أنكر فيه أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أسس دولة أو رأس حكومة، وفي هذا الكتاب قال: "إن محمدا صلى الله عليه وسلم – ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، غير مشوبة بشيء من الحكم، وإنه لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك، هيهات هيهات، لم يكن ثمة حكومة ولا دولة ولا شيء من نزعات
السياسة ولا أغراض الملوك والأمراء، لم يكن هناك ترتيب حكومي، ولم يكن ثمة ولاة ولا قضاة ولا ديوان.. إلخ، كانت زعامة دينية، ويا بعد ما بين السياسة والدين".
ولقد تصدى لنقض هذه الدعوى عدد كبير من علماء الإسلام ومفكريه، ونشر حول هذه القضية، عشرات الكتب والدراسات والمقالات، التي كونت "مكتبة" لأشهر المعارك الفكرية في القرن العشرين.
وإذا كان كثيرون قد تتبعوا الجدل الذي ثار حول هذا الموضوع - موضوع البعد المدني والسياسي للإسلام - فإن كثيرين لم يعرفوا أن زعيم الأمة سعد زغلول باشا (1273- 1346هـ، 1857- 1927م) قد كان في طليعة الذين وجهوا النقد الشديد لعلي عبد الرازق وكتابه ودعواه.
ولقد أملى سعد زغلول على سكرتيره الخاص محمد إبراهيم الجزيري رأيه وموقفه الذي قال فيه: "لقد قرات كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بإمعان، لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب، فعجبت - أولا - كيف يكتب عالم ديني بهذا الأسلوب في مثل هذا الموضوع؟ لقد قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدة كهذه، حدة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق".
لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي أن الإسلام ليس دينا مدنيا؟ ولا هو بنظام يصلح للحكم؟! فأية ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟! هل البيع أو الإجارة أو الهبة أو أي نوع آخر من المعاملات؟! ألم يدرس شيئا من هذا في الأزهر؟ أولم يقرأ أن أمما حُكمت بقواعد الإسلام فقط عهودا طويلة كانت أنضر العصور؟ وأن أمما لا تزال تُحكم بهذه القواعد، وهي آمنة مطمئنة؟! فكيف لا يكون الإسلام مدنيا ودين حكم؟! أين كان هذا الشيخ من الدراسة
الدينية الأزهرية؟! والذي يؤلمني حقا أن كثيرا من الشبان الذين لم تقو مداركهم في العلم القومي، والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد، سيتحيزون لمثل هذه الأفكار، خطأ كانت أو صوابا، دون تمحيص ولا درس.
وكم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي، وبين قواعد الإسلام الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها!
هكذا تحدث سعد زغلول عن الإسلام كمنهاج شامل للمدنية والسياسة والحكم والدولة، فهل قرأ هذا العلمانيون، الذين ينسبون أنفسهم إلى سعد زغلول؟!