قضايا وآراء

هل الصراع الإسلامي – العلماني صراع حتمي!

خالد سليمان
1300x600
1300x600
ربما ترجع البدايات الواضحة للصراع الإسلامي – العلماني في الوطن العربي إلى الفترة التي قرر فيها محمد علي باشا أن يتخذ من الغرب النموذج الجدير بالمحاكاة لبناء الدولة المصرية الحديثة.

لم يكن محمد علي مسلما ورعا أو متفقها في الإسلام، بل إن سيرته تكتظ بصور المجون والفسق والانحراف، وكان الدين الإسلامي بالنسبة له، كما كان بالنسبة لكل الحكام الفاسدين المستبدين الذين أعقبوه، مجرد شعار شكلي يتم رفعه لاستغلال المشاعر الدينية عند الناس وتوسل الشرعية.

لا ندري إذا كان محمد علي قد أدرك أن اعتماد النموذج الغربي لحكم دولته الناشئة سيعني، وبالضرورة، توجيه طعنة نجلاء إلى قلب النموذج الإسلامي، لأن الجمع بين النموذجين كان أمرا مستحيلا في الواقع، ولا يزال، وذلك للتناقض الصارخ بين مقولاتهما الأساسية.  

فالنموذج الإسلامي ينطلق من قاعدة سماوية ترى أن حياة المجتمع وأفراده، من مختلف الجوانب وعلى شتى المستويات والأصعدة، ينبغي أن تكون تعبيرا أمينا وجادا وثابتا عن تعاليم الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة. أما النموذج الغربي، فيرتكز إلى قاعدة مادية وضعية، ترى في تقديرات البشر المتغيرة لما يظنون أنه يحقق مصالحهم الأساس لتسيير شؤون المجتمع ومكوناته.

فالمشكلة التي تحول دون إمكان التقاء النموذجين أو تعايشهما، تتعلق باختلاف المرجعية، فمن يختار أحدهما لا يمكن أن يقتنع بالثاني. فالمسلم الذي يرتضي بالنموذج العلماني لحكم حياته يخاطر في حقيقة الأمر بالخروج عن الانتماء الفعلي الصادق للإسلام. والعلماني الذي يزعم أن لا مشكلة عنده في التآلف مع النموذج الإسلامي، يغامر بالتضحية بكثير من الحريات التي يراها طبيعية وشرعية من وجهة نظر فكره العلماني.

مع التنويه هنا إلى التجربة التركية، التي قد يستحضرها البعض للزعم بإمكان الانسجام بين قيم العلمانية والإسلام.

فالدولة التركية الحالية لايمكن نسبة سياساتها وقوانينها إلى الإسلام بحال من الأحوال، بالرغم مما يبديه أهل الحكم هناك من توجهات دينية، تظل أقرب إلى التوجهات الشخصية.

ضرب الأمثلة العملية هو أمر مهم في هذا السياق لتوضيح وإثبات حقيقة التناقض الحتمي غير القابل للتوفيق بين النموذجين. وإليكم بعض الأمثلة التي تمس حياتنا جميعا ونتعرض لها كل يوم:

في الإسلام، يشكل الربا، كما هو ثابت، أمرا محرما بشدة، إلى درجة أن اللعن الإلهي قد طال كل الأطراف التي قد تتورط في التعامل به، من آكليه وموكليه وشهّاده وكاتبيه، وإلى درجة أن درهم ربا هو أشد عند الله مقتا من ست وثلاثين زنية.

من المؤكد أن المتبع الجاد للنموذج الإسلامي، ومهما ضاقت في وجهه السبل، سيتجنب تماما اللجوء إلى الربا، خوفا من غضب الله تعالى، وإيمانا بتعهدات الله الكثيرة بتفريج كرب من يتقيه ورزقه من أوسع الأبواب.

أما صاحبنا العلماني، حتى وإن كان مسلم الديانة، فإنه لن يفكر في شيء من تلك الأمور، وسيهرول إلى أقرب بنك يسمع أنه قد يمنحه فائدة ربوية أعلى لقاء تشغيل أمواله، أو قد يخفض له نسبة الفائدة الربوية التي عليه دفعها إذا ما قام بالاقتراض!

وفي الإسلام، في حالة سيادة الحكم الإسلامي، هناك فصل بين المجال الخاص والعام. ففي المجال الخاص، يستطيع المرء أن يفعل ما يشاء من موبقات، ما دام يغلق عليه بابه، ولا يؤذي غيره. أما في المجال العام الذي يتخطى حدود بيته، فإن عليه الالتزام بتعاليم الشريعة وضوابطها وأحكامها.

وهذا الطرح يتعارض تماما مع تصورات صاحبنا العلماني، الذي يرى أن من حقه الذي لا جدال فيه أن يترك زوجته أو ابنته تخرج إلى الشارع وهي ترتدي أحدث الأزياء، حتى وإن كانت تلك الأزياء تظهرها شبه عارية.

وهو يرى أن من حقه أن يجد ملاهي ليلية أو حانات يدخلها، ليرقص ويعاقر الخمر فيها، دون أن يزعجه أحد. وهو يرى أن من حقه أن يجد مباغي مرخصة يقصدها لممارسة الجنس إذا ما ارتأى ذلك، دون رقيب أو حسيب. وهو يرى أن من حقه أن يرتاد دور سينما عامة ليشاهد فيها ما يشاء من أفلام، مهما احتوت تلك الأفلام على مشاهد وموضوعات العري والشذوذ والتجديف بحق المقدسات.

وهو يرى أن من حق الشواذ جنسيا أن يجاهروا بوضعهم وأن يتزاوجوا وأن يقيموا المنتديات والمسيرات بكل حرية وأريحية. وهو يرى أن من حقه ومن حق الجميع، مهما كانت تخصصاتهم ومستوياتهم العلمية، الخوض في مناقشة مسائل الدين، والتشكيك في ثوابته والطعن في رموزه وعلمائه.. إلخ.

إن الإيمان بالنموذج العلماني سيقود صاحبه إلى القول بكل ما تقدم، حتى وإن كان لا يعي ذلك، أو لا يجرؤ على الاعتراف به. فالفكر العلماني يقوم على مفاهيم المصلحة المادية والحرية المائعة والمتعة الدنيوية، دون إيلاء أي عناية لما يقوله الدين بشأن تعريف تلك المفاهيم وتحديدها وضبطها.
 
تأسيسا على ما تقدم؛ فإن التصادم بين النموذجين حتمي ولا يمكن تجاهله أو تهميشه أو التظاهر بعدم وجوده. وعلى المرء أن يختار النموذج الذي يريد دعمه بصراحة ووضوح، ليس فط لأسباب دينية تتعلق بمصيره في الآخرة، وإنما أيضا لأسباب سياسية دنيوية، لأن الأمر يتعلق، كما هو الحال بالفعل، بوجود صراعات دموية بين النموذجين في بلدان عربية عديدة تهدف إلى تغليب أحدهما.

فالمؤمن بالفكر العلماني ويريد اتباعه وتطبيقه، عليه أن يعلم أنه لن يجد نفسه ولن يتمكن من ممارسة ما يظنها حرية في ظل أنظمة تطبق الشريعة بصورة جدية، حتى وإن كانت أنظمة إسلامية وسطية معتدلة، ليس بالطبع بالمعنى الزائف الذي تقدمه بعض الأنظمة الحالية المتطفلة على الإسلام للوسطية والاعتدال.

أما المؤمن بالنموذج الإسلامي والآمل بتفعيله، فإن عليه أن يدرك أن سيطرة أنظمة علمانية على مجتمعه ستفضي إلى إجباره على تقديم تنازلات دينية موجعة، أو اتهامه بالتطرف والرجعية، وربما بالإرهاب، إذا ما أصر على التشبث بتعاليم دينه.
التعليقات (0)