كتاب عربي 21

آثار الاستبداد أخطر من حصوله

شريف أيمن
1300x600
1300x600
إشكال أي حريص على وطنه مع الاستبداد ليس نابعا من إرادته العيش بكرامة وحرية فحسب، ولكن الإشكال الأكبر ينبع من آثار ما يلحقه الاستبداد من هدم لكل التفاصيل الحسنة، على مستوى القيم والثروات وكذلك الحريات وغير ذلك مما يحتاج لمؤلَّف كامل، فالاستبداد يهدم ويهدر، ولذا أصبحت آثاره على مستوى الأمم أخطر من حصوله، فهو قد ينجح أحيانا في بعض دفعات التقدم.

والراغب في مثال لأقبح أنواع الاستبداد، لن يجد أبْيَن من الحالة المصرية الحالية، أو العربية بشكل أكثر اتساعا وبيانا.

(1)
قبل تحرك المصريين للتغيير بمطلع العشرية الثانية للقرن الحالي، كانت آثار الاستبداد بدأت في الظهور، من تحلل للكثير من القيم وهدر للحريات، مع بقاء تماسك محدود بالمجتمع سمح له بالائتلاف ليخرج ساعيا لتغيير المسؤول عن تلك الحالة.

بعد انتكاسة الثورة منذ عامين، بان سعيُ أقطاب الحكم المنكسر لتفريق تلك اللُّحمة منذ اللحظات الأولى للانتصار، فكان لا بد من هدم القيم التي انتفض لأجلها المجتمع، حتى يصفو الحكم له.|

لم تكن الثورة ترتبط بشيء قدر ارتباطها بالمعيشة، ولكن وقوع قتلى لأجل الاحتجاجات أشعل ثورة حقيقية، أكلت يابسه وأبقت على الأخضر، وعمى الاستبداد لم يفرق بين رغبته في مجتمع متناحر بشكل يمكن السيطرة عليه، وبين مجتمع متناحر يبغي إفناء بعضه البعض، والأولى مُضرّة والأخرى مهلكة له قبل أطراف التناحر، فسعى المستبد الغِرُّ لإذكاء العداوات ودعوة الأطراف المؤسسية والأهلية للاقتتال مع خصومه، حتى قطع خط الرجعة بين خصومه ومؤسساته، واهترأ مع من تبقى من أنصاره وأعوانه.

قد يبدو الغرّ سعيدا الآن لأن المجتمع لم يعد يتفاعل بنفس القدر مع سقوط قتلى، ولكن عدم تمهله في القطع بحصول التغيرات يجعل خصومه أكثر سعادة.

هدم القيم يفتقر لانحطاط آخر حتى يخر بنيانها، ألا وهو تزييف الوعي التعليمي للأجيال المقبلة، ولم يعد خافيا حجم التدليس أو التضخيم لوقائع صغيرة، في الكتب الدراسية بمختلف المراحل العلمية، وهو من أضر آثار الاستبداد، لأن تشويه النشء لا يسهل البُرْء منه.

(2)
بجوار هدم الجانب المعنوي بالمجتمع، يتحرك المستبد لهدر الجانب المادي، فلا تبقى قوة معنوية دافعة ومحركة، ولا مادية تبقي على أمل العيش في عزّ المادة وإن ذلت الروح واستُعبدت.

هدر الثروات لا يتعلق بهناء المواطنين المعيشيّ، بل يتعلق أيضا بحقوق الأجيال التالية في بقاء أدوات القوة ووسائل الضغط، لكن المستبد لا يعبؤ بغيره الذين يقاسموه حاضره فضلا عن رعايته المستقبل، وكذا يفعل من يفرط في حقوق وطنه من منجم الذهب الأكبر في ظل غلائه على مواطنيه، أو بترك العدو التاريخي له وللأمة يعربد في حقول غازه، أو إلقائه إليه بأبخس الأثمان، إلى أن افتقر ويستورده الآن من العدو بأضعاف ما باعه.

مؤخرا صدر قانون الثروة المعدنية في جملة القوانين التي تصدر دون رقيب أو حسيب، والتي تعد قوانينا مؤسسة لهدم البلد وهدر ثرواتها، ولم يحظ بأي اهتمام إعلامي حتى على مستوى المعارضة، وما يرسخه القانون -هكذا سمّوه- من هدر لثروات، ورفع للأسعار، وتهيئة إنهاء دور الدولة كحجر زاوية يضبط الممارسات والأسعار، كل ذلك وغيره يدعوا لإيقاف النزيف الحاصل، وقّلْع المتسبب فيه.

(3)
تعد قضية الحرية للوهلة الأولى إحدى القضايا السياسية بامتياز، لكن المطالبة بالحريات، مطالبة بتحقيق كل الحقوق الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، فالمستبد يصنع مثلما يصنع صاحب الكنانة من تضييق معيشي على أهل بلده لكنه يغدق على أذرعه، ورغم فداحة ما يصنعه الاستبداد في تلك الجهة إلا أن التعافي من آثاره في الجانبين الاجتماعي والأمني لا يمكن تداركه في أجل منظور.

تجارب الاستبداد تقول أن مؤدّى كبت الحريات مع قمع عَسَسِه لا يرشد إلا إلى طريق السلاح أو انكسار كرامة الأمة، لتصير مسخا لا ينتج ولا يتحرك ولا يعبؤ برفعة وطن ولا نهضة حضارة ولا وازع دين، هذا المسخ قد يتغير في مرحلة ما، إما بانقلابه لأحط التقلبات برفض حتى الحرية ومقاتلة راغبيها وتلك رغبة الغِرّ المتحكم، أو يصير ساخطا ناقما كافرا بأقوم السلوكيات ومكفّرا لمُبلغه تلك الحالة وغير عابئ بآثار ما يفعل وما يوقع من ضرر؛ إذ الجميع في نظره لم يكترث بحاله، وكذلك لن يفعل هو.

ثم أثر ذلك على عسسه وشرطته، أنه يحيلهم إلى عصابات مرَخّصة تقتل دون حساب وتعذب لترتاح من جهد التحقيق، فتنتزع المعلومات وتزرع الغل والصّغار، وتتبلد قدراتهم الذهنية بتلك الممارسات، وتصير حياتهم غير مرتبطة سوى بأمر منهم يتبعه حصول أو انتقام من الرافض للامتثال حتى لو كانت زيجة أو كلاما.

(4)
بداية آفات الاستبداد أجملها العليّ في آيتين من أوائل ما نزل: "كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى" فظن الغِرّ استغناؤه عن الغير أورده مهالك الاستبداد، وانعدام الناصحين وخوفهم من المستبد جعله يزهو حتى ظن أنه أو "زمرته المهنية" في غير حاجة لنصح أو إرشاد، دون إدراك للتمييز والفارق بين إدارة مؤسسة أو وطن، أو تقاليد مؤسسة خاصة وتقاليد وطن يسع الجميع وله تقاليد أولى بالرعاية، لذا رفض حكم المؤسسات -خاصة صاحبة الطباع الحادة- ليس ترفا ولا هدما لها، بل هو عين الحفاظ عليها، وعلى ما تبقى من وطن يصب خيراته في صناعتها وبقائها.

النظر للاستبداد من حيث حصوله لا ينبغي أن يطغى على النظر إليه من حيث بَذْرِه وزرعه، وما يلقى في الأرض منه قد لا ينفع معه إصلاح بعد أن أحالها بورا عقيما، لا يرجى منها خير ولا حاجة لأن يستدفع عنها شر.
التعليقات (1)
آمال صبيح
الجمعة، 18-02-2022 09:29 م
احسنتم وبارك الله فيكم لاكن ين لمصادر