تحتل قصة
فرعون ومواجهته مع موسى أكبر مساحة من القصص
القرآني، ولهذا التركيز دلالاته، فالقرآن لا يقص القصص من باب السرد أو التسلية، إنما لعلهم يتفكرون، و كل القصص والشخصيات القرآنية تحتوي ترميزا مكثفا لقوانين نفسية واجتماعية مطردة يعالجها القرآن عبر شخصيات وقصص تاريخية، لكن دروسها تتجاوز ظرفيتها الزمانية، وتتسع لتعبر عن سنن عامة.
إن فرعون في القرآن لا يمثل مجرد شخصية تاريخية ظهرت في عصور سالفة، بل هو نموذج للطاغية يمكن أن ينتجه أي تجمع بشري حين تتوفر شروط صناعته، فكل شخص فينا يحمل في داخله فرعونا صغيرا ينتظر الانقضاض ما لم يهذب نفسه.
وكل مجتمع قابل لأن يدخل في ظلمات الفرعونية إن لم يوجد الآليات الصارمة لمكافحة الميل الطبيعي للعلو والطغيان. ولأن القرآن يطرح قصة فرعون في سياق كونها سنة عامة، وليست مجرد قصة بدأت وانتهت، فإن في كل مشهد قرآني يتناول أقوال فرعون وأفعاله إضاءة على جانب من جوانب النفسية الفرعونية، يعطينا مؤشرا إذا وعيناه وأعلينا حساسيتنا تجاهه حصنّا مجتمعاتنا من إنتاج نسخ جديدة من فرعون.
من هو فرعون في القرآن؟
فرعون هو نموذج الحاكم المستبد المفسد في الأرض الذي يدفعه الملك والسلطة إلى العلو وسفك الدماء بعد أن نسي الحساب الإلهي وأمن الحساب الدنيوي: "واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون".
* فرعون هو الذي قال: "ما علمت لكم من إله غيري"، و قال: "أنا ربكم الأعلى".. هذه الأقوال تكشف حقيقة الاستكبار النفسي التي تنطوي عليها نفسية الطاغية، فهو لا يرضى بمبدأ المساواة الإنسانية، بل يريد لنفسه ميزات خاصة ترفعه عن مقام البشر، وإذا كان فرعون قد ادعى الألوهية بلغة سافرة فلا يشترط أن يدعي كل الطغاة الألوهية بهذا الوضوح..
فهناك من الطغاة من يصلي لله بجسده ويقول الله أكبر بلسانه ويتسمى بأسماء المسلمين، لكن مسار حياته يؤكد أنه يظن في قرارة نفسه أنه الرب الأعلى وأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وأنه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، إن حقيقة دعوى الألوهية ليست في منطوق الكلام بل في مكنون النفس، و كل الطغاة هم مدعو ألوهية بالضرورة لأنهم يوظفون ما يمتلكونه من سلطة ومال لشراء الولاءات وتطويع الإرادات وبسط النفوذ والكبرياء في الأرض.
* فرعون في القرآن هو الذي قال: "آمنتم له قبل أن آذن لكم"، و قال: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".. هذه الأقوال تكشف الطبيعة الشمولية للنظام الاستبدادي التي لا تعترف بحق التعددية الفكرية والسياسية في المجتمع، فالطاغية لا ينظر إلى الناس بأنهم بشر لهم حق الفهم والاختيار، بل يراهم مجرد أرقام ساقطة، أو أحجار شطرنج يحركها وفق مشيئته دون إرادة لها، تبرز هذه الحقيقة صارخة في قول فرعون: "آمنتم له قبل أن آذن لكم"، وهل يحتاج الإيمان إلى إذن خارجي؟
هل يحتاج إيمانك بجمال الزهرة إلى استئذان؟ كذلك لا يحتاج اكتشاف الحقيقة أكثر من اقتناع داخلي، لكن فرعون وهو المعادل الموضوعي لأي مستبد لا يعترف بأن شعبه بشر مثله لهم عقول تفكر وإرادة تقرر، بل يراهم مجرد عبيد مسلوبي المشيئة لا يحق لهم أن يروا إلا ما يرى، إنه وحده من يمتلك المشيئة والرأي والرشاد.
* فرعون هو الذي قال: "ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض
الفساد".. هذه المقولة الفرعونية مكتنزة الدلالات، ففرعون يطلب تفويضاً من قومه لمحاربة موسى، هذا يعني أن الطاغية ليس فردا بل منظومة متكاملة، فليس من الصواب التعويل على إزاحة شخص الطاغية لتنتهي المشكلة، هذه المنظومة التي يتحرك الطاغية في إطارها قد يتمتع الأفراد داخلها بمساحة من الديمقراطية والرأي، وقد يكون شخص الرئيس فيها محكوما بالشورى وبسقف يقيد حركته، لكنها ديمقراطية مقتصر نفعها داخل الطائفة أو الحزب أو الطبقة الحاكمة، أما باتجاه الخارج فهي ظالمة ومستكبرة ومفسدة، مما يلغي قيمتها ما لم تنتج عدلا وإصلاحا لكل الناس.
* الجزء الآخر من الآية: "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد" يكشف أن المستبد يتحرك انطلاقا من معتقد إيديولوجي يصور له أنه حامل لواء العدل والإصلاح، فالاستبداد لا يشترط فيه الوعي به، إنما قد يقترف المستبد أفظع الجرائم وهو مشوش الوعي يحسب أنه يحسن صنعا، وهذا ما نرى أمثلته في طغاة اليوم فالقذافي كان يتخيل أنه يتصدى لمؤامرة كونية وبشار الأسد لا يزال يعيش في وهم الممانعة.
ولا عجب في ذلك إذ إنه حتى فرعون كان يتصور أنه يحارب الفساد الذي يمارسه موسى وكان ينطلق من عقيدة بالمحافظة على تقاليد المجتمع وطريقته المثلى، لكن هذه الأيديولوجيا التي يحملها المستبدون لا قيمة لها إذا كانت المحصلة العملية استبداداً وقتلا وإفسادا في الأرض.
إن إمكانية الوقوع في مرض الاستبداد دون الوعي بذلك ينبغي أن يستفز أي جماعة مهما كان اعتقادها بأخلاقيتها وحقها المبدئي إلى إعلاء مراجعاتها وحساسيتها الأخلاقية خشية تسلل هذا المرض إلى نفوسهم وهم لا يشعرون، فالعبرة ليست بالانكفاء على الذات وإقناعها بأنها حاملة لواء الإصلاح في الأرض، بل هي بمعيار خارجي متمثل بمدى إنسانيتك وسمو أخلاقك مع المخالف الفكري وقطع الطريق على أسلوب القتل والاستعلاء وسفك الدماء تحت أي مبررات.
* يقول القرآن: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ".. هنا يبرز القرآن أحد أهم ركائز سياسات الأنظمة والدول المستبدة، ألا وهو اللعب على التناقضات الداخلية والدفع باتجاه تفتيت النسيج المجتمعي، ذلك أن المستبد لا ينجح في بيئة اجتماعية صحيحة، لأن سلامة النسيج المجتمعي يعزل الطاغية ويعقم التربة من امتداد جذوره فيها.
إن سلامة النسيج المجتمعي يعني أن الناس موحدون، ووحدة الشعب تفضح أي محاولة للتمييز والمحاباة والاستعلاء على القانون من قبل الحاكم، لذلك فإن الحاكم المستبد يراهن في نجاح مشروعه الاستبدادي على إيجاد شرخ اجتماعي وتعزيز الطبقية بين الناس مما يسوغ الظلم بينهم ويقضى على حق المساوة ويشرعن وجود طبقة حاكمة متنفذة تستأثر بالخيرات والميزات لنفسها.
إن المستبد لا يستطيع أن يحكم إلا وهو يسند ظهره إلى طبقة من المجتمع تناصره وتشد عضده، وفي سبيل شراء ولاء هذه الطبقة يغدق عليها من العطايا والهبات على حساب طبقة أخرى مسحوقة مهمشة، هذه الطبقة قد تكون طائفيةً كما هو الحال في سوريا وقد تكون اقتصادية كما في مصر، وفي جميع الأحوال فإن الشرخ الاجتماعي هو الذي يمنح الشرعية لنظام قائم على العلو والاستبداد.
* يقول القرآن عن فرعون وقومه: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ".. هنا يبرز القرآن دور المسؤولية الاجتماعية في إفراز ظاهرة الاستبداد، ففرعون لم يأت من فراغ إنما كان تتويجا للعلاقات المختلة في المجتمع، وكان المحصلة الطبيعية لقابلية المجتمع للاستعباد والاستخفاف، في التصور القرآني لا يوجد اعتراف ب"العبد المأمور" الذي لا يملك من أمره شيئا، إذ إن هذا العبد المأمور هو الذراع التنفيذية لفرعون ولولا دعمه ومساندته لما كان بمقدور فرعون ممارسة ظلمه واستعلائه: "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين"..
فرعون هو النتيجة والمجتمع هو السبب، وحين يرفض المجتمع الاستعباد فلن يستطيع أي طاغية البقاء فيه لذلك فإن الطريق نحو معالجة جذرية لمشكلة المجتمعات الرازخة تحت أغلال العبودية لا تكون بإزاحة فرد واحد اسمه فرعون بل بتعقيم التربة الثقافية حتى تنشأ الشعوب حرة كريمة تأبى الهوان والإذلال.
إن هذا الحضور المكثف لقصة فرعون في القرآن الكريم يكشف لنا أن مشكلة البشر الأخطر كانت ولا تزال هي الاستعلاء والإفساد والاستكبار، وأن الظلم السياسي الضارب بجذوره في ربوع بلادنا ليس سوى تجلية للظلم الاجتماعي وقابلية النفوس للاستعباد، وأن الطريق لإخراج مجتمعاتنا من ظلمات الفرعونية إلى نور العدل والقسط هو بالتفطن إلى مؤشرات الانحراف وإجهاضها في مهدها قبل أن تنبت شجرة الاستبداد الخبيثة التي تهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.