الاختلاف سنة كونية فطرت البشرية عليها، ومن سنن الحياة أنها قائمة على قانون التدافع الحضاري بين مراكز القوى، وهذا التدافع في السياق الطبيعي يحقق المصالح ويمنع المفساد في الأرض.
ولكن الاختلاف والتدافع في الدول المتخلفة يتعقد وينحرف مساره نتيجة سوء إدارة الخلاف والتدافع، وتدخل الأهواء الشخصية، ويتحول إلى صراع ونزاع ومعارك وحروب أهلية طويلة المدى.
والباحث المتتبع للمسار التطوري للاختلاف داخل الأمم والمجتمعات يراه على النحو الآتي:
في المرحلة الأولى يكون الاختلاف ظاهرة طبيعية بل وصحية، وتتعامل معه السياسات الحكومية في الدول المتحضرة بأساليب ذكية تمنع تطوره إلى احتقان ينفجر بصورة عنيفة تدمر المحيط الاجتماعي و المؤسساتي.
وعندما تفشل آليات تنظيم الاختلاف واحتوائه يتطور إلى نزاع فالنزاع أعلى درجة من الاختلاف ويأتي نتيجة له، ويتسم بالطابع العنيف في النقد اللفظي الذي لا يخرج في العادة إلى العنف الخارجي. فإذا تطور النزع من العنف اللفظي إلى الاشتباك والاعتداء الجسدي؛ فإن الصراع في هذه الحالة يكون قد تحول إلى اشتباك أو معركة ولا يشترط استخدام السلاح في هذا الاشتباك أو المعركة، وعندما يفشل هذا الاشتباك في دفع الأطراف إلى التوافق على المصالح، فإنه يتطور إلى اشتباك طويل المدى تستخدم فيه جميع أدوات الاشتباك بما فيها السلاح، وفي هذه الحالة يتحول الاشتباك إلى حرب.
والفارق الفاصل بين الدول المتحضرة والدول المتخلفة يكمن في قدرتها على احتواء الاختلافات والنزاعات والصراعات، والحيلولة دون تحولها إلى اشتباكات وحروب ...
ولم تستخدم الدول المتحضرة العنف في حل
الصراعات إلا في الحالات النادرة وللضرورة القصوى، وهذا ما رأيناه في سياسة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام في طريقة إدارته للخلافات الداخلية فلم يفتح أي جبهة لقتال المنافقين.
وفي العصر الحديث من الأمثلة الذكية على إدراة الصراعات التعامل البريطاني مع الجيش الإيرلندي ونجاح بريطانيا في إدارة الصراع، والتحكم فيه في المستويات الدنيا فسمحت للأيرلنديين بالتعبير عن مطالبهم، ومنها حق المطالبة السلمية بانفصال إيرلندا، وفي مقابل هذا النموذج الايجابي نشاهد إخفاق رومانيا في معالجة الصراع وتصعيد الصراع إلى مستويات عليا، والفشل في التحكم بنتائج هذا الصراع..
وباختصار فإن الدول المتخلفة سرعان مايتحول فيها الاختلاف إلى نزاع وصراع واشتباكات وحروب وتغيب فرص التعايش، ويغيب السلم الاجتماعي وتغرق الأطراف في حروب أهلية طاحنة. والدول المتقدمة تعمل على معالجات الصراعات والنزاعات بأساليب حكيمة وذكية تحدد على النحو الآتي:
أولا: التعامل مع الاختلاف باعتبار وجوده طبيعي وعدم توسيعه إلى نزاع وهذا يستدعي رفع مستوى الوعي.
ثانيا: عدم توسيع النزاع ليتحول إلى وقع اشتباك.
ثالثا: في حالة حدوث الاشتباك ينبغي تجريم استخدام العنف والسلاح من جميع الأطراف.
رابعا: اعتبار المواطنة هي الأساس الوحيد في توزيع الحقوق والواجبات وإصلاح منظومة العدالة، وتفعيل القضاء المستقل، وتشجيع الناس على الاحتكام إلى القضاء.
خامسا: التوافق على أدوات ديمقراطية للتعامل مع الاختلاف تضمن حق الجميع في طرح رأيه وانتقاد الآراء الأخرى و اتخاذ القرارات بشورى عادلة.
نحن في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الأمة الذي يشهد قتالا ودماء، ليس لها أول وآخر، وما تلك المناظر البشعة في التنكيل والقتل و الترويع إلا نتيجة لعدم اصطلاح الأمة اليوم على منهجية متفق عليها للتعامل مع الاختلافات و الصراعات.
فما أحوجنا أن نسترجع شيئا من كرامتنا كبشر، وإعمال أدوات الديمقراطية والشورى لمحاصرة الاختلافات ووأدها..