هو رجل
بريطاني جدير بالاحترام، اسمه
أندور ويلكي، وهو بروفيسور في جامعة أكسفورد العريقة، وله إنجازات معترف بها عالميا في مجال أمراض الدم، وأقام الدنيا وأقعدها، وانهالت عليه اللعنات من سياسيين وصحفيين بريطانيين وأمريكان وجنسيات أخرى عديدة، لأنه وبحكم تخصصه النادر وشهرته العالمية، يتبنى نوابغ الأطباء، ويشرف على تدريسهم وتدريبهم، وكان أن تلقى طلبات من راغبين في نيل الدرجات فوق الجامعية في علوم الأمراض والدم، ورفض طلبا من طالب اسمه أميت دوفاشاني كان يريد التحضير للدكتوراه تحت إشرافه.
ولكن البروفيسور ويلكي رفض طلبه ورد عليه بكل وضوح في رسالة بالبريد الإلكتروني: شكرا على اتصالك بي، ورغبتك في الالتحاق بالدورات التدريبية التي أنظمها، ولكنني لا أستطيع أن أقبل بك ضمن طلابي، لأنه يصعب علي قبول طالب
إسرائيلي سبق له أداء الخدمة العسكرية (كان دوفاشاني مبتعثا من جامعة تل أبيب).
ويواصل بروفيسور ويلكي مخاطبة
الطبيب الإسرائيلي في رسالته تلك: "والإسرائيليون استثمروا معاناتهم خلال المحرقة النازية، ويواصلون البكاء على ضحاياهم، بينما ينتهكون حقوق الفلسطينيين بصورة فظة، فقط لأنهم -أي الفلسطينيين- يريدون العيش في وطنهم، وقد تكون أنت بالذات شخصا طيبا، ولكن ضميري لا يسمح لي بالتعامل معك، لكونك مررت بالتجنيد الإجباري في إسرائيل. وليكن معلوما لديك أن عددا كبيرا من العلماء البريطانيين يشاركونني الرأي، في أن حكومتكم تمارس أفظع وأبشع الجرائم في حق الفلسطينيين".
وهكذا قامت قيامة صحف اليمين البريطاني، ونهشت لحم بروفيسور ويلكي متهمة إياه بمعاداة
السامية والعنصرية، (جاءتني ذات مرة رسالة باللغة العربية المكسرة، كان من الواضح من اسم من أرسلها أنه يهودي، تتهمني بمعاداة السامية، لأنني كتبت مرارا في مقالاتي عن كوني نوبيا وبالتالي حاميا، فأرسلت إليه ردا أقول فيه: يا ابن قراد الكلب، العرب ساميون مثلكم ومع هذا فأنتم تلطمون الخدود – اليهود لا يشقون الجيوب!! بزعم أنهم يعادون السامية، مع أنهم –أي العرب– جعلوا من اليهودية ليلى مراد نجمة في الغناء والتمثيل، وعشقوا الراقصة "سامية" جمال، التي تخلت عن اسمها الحقيقي "زينب خليل إبراهيم، واختارت "السامية").
ضغطت جامعة أوكسفورد على ويلكي كي يغير موقفه ويقبل الطالب الإسرائيلي، ولكنه اختار تقديم استقالته على القيام بأمر لا يرضاه ضميره، هنا وقعت الجامعة في حيص بيص، فالرجل من أعلام علماء بريطانيا، والتفريط فيه سيهز مكانة الجامعة العلمية، وهكذا تكتكت الجامعة لتجد مخرجا من الورطة، ثم قالت: فلتضرب إسرائيل رأسها بالحائط أو تشرب من البحر الأبيض أو الميت موات ضمائر قادتها، فالزمان لا يجود دائما بأمثال برفيسور ويلكي وقررت اعتبار فترة استقالته "توقيفا"، أي تأديبا إداريا (يعني فيلما هنديا، اتقاء لألسنة الكلاب التي تنبح نيابة عن إسرائيل) وأعادته إلى وظيفته واضطر الطالب الإسرائيلي للبحث عن جامعة أخرى تؤويه.
وهذه الحكاية مهداة إلى من يعتبرون كل إنسان أبيض عدوا للعرب والإسلام، متناسين أن أقوى الحركات المعارضة لغزو أمريكا للعراق والبلطجة التي مارسها الجنود الأمريكان هناك، كانت تنطلق وتزداد عنفوانا يوما بعد يوم في أوروبا وأمريكا، حتى فاز أوباما بالرئاسة الأمريكية واضطر لسحب قوات بلاده من هناك، وأن موقف النقابات المهنية والعمالية في الدول الغربية الرافض لسياسات إسرائيل في وقتنا الراهن، أقوى من موقف منظمة التحرير، التي أعلنتها "ثورة، ثورة حتى النصر"، ونجحت في إقامة دولتي حماسستان ومازنستان، وهناك دحلانستان التي ما تزال في قناة فالوب. بل إن نقابة أساتذة الجامعات في بريطانيا ما زالت تقاطع الجامعات الإسرائيلية مقاطعة ناجزة كاملة، بينما نحن لا نستطيع أن نمارس كراهيتنا لما تقوم به إسرائيل وأمريكا إلا بطريقة العادة السرية: عبر البريد الإلكتروني في ما بيننا، وفي جلسات الأنس، فكل كلمة سوء بحق أمريكا تعود عليك بشبهة الإرهاب، وكل كلمة ناقدة لإسرائيل تجعلك عدوا للسامية، مع أن حكومة إسرائيل الحالية هي العدو الأكبر للسامية.
وقد قرأت للكاتب الأمريكي الكبير وليام فاف في الهيرالد تريبيون (التي رحلت عن دنيا الصحافة مؤخرا) مقالا عن بلطجات شارون السفاح صاحب أسوأ سجل دموي في تاريخ الشرق الأوسط،، وكيف أن الرئيس الأمريكي السابق الأخرق جورج دبليو بوش سار على خطاه في العراق من حيث ممارسة القتل العشوائي وتجريف الأراضي الزراعية وتدمير البساتين، وبعد قراءة المقال خشيت على كاتبه من السجن، ثم تذكرت أنه أمريكي ومن حقه أن يقول ما يريد عن حكومة بلاده وحكومات بلداننا، بينما ليس من حقنا أن نقول أي شيء عن حكومة بلاده أو حكومة إسرائيل. أما إذا فقد عربي عقله، وقال شيئا غير المدح في حق حكومة بلاده فإنه يلاقي عزرائيل!