أحيى
اللبنانيون قبل أيام قليلة الذكرى السنوية الأربعين لانطلاقة حربهم الأهلية (13/04/1975) وأَتخموا عشرات الساعات التلفزيونية والإذاعية والصفحات الإلكترونية والورقية بعبارات من مثل: "تنذكِر ما تنعاد" و"لبنان يطير بجناحَيه"، فيما كرر المسؤولون السياسيون على الشاشات تفريغ مقولتهم "الوقفية"، التي تصف لبنان بالنموذج الفريد في العالم لحوار الثقافات حيث تعيش وتتعايش على سطحه 18 طائفة إسلامية ومسيحية وغير ذلك، تجمع بينها القيم والتقاليد فضلاً عن الجغرافيا والتاريخ.
ولعل ترداد فِرية "
النموذج الفريد" في هذا اليوم بالذات، يشكل الجذر الأساس لاعتماد الثالث عشر من نيسان بدل الأول منه عيداً للكذب وفق التقويم اللبناني، فإذا كان أكثر من مئة ألف قتيل على الهوية الطائفية نموذجاً كونياً فريداً للمحبة، فكيف تكون الكراهية إذن وإلغاء الآخر؟!
وإذا كان تدمير المساجد والكنائس فصلاً من حوار الثقافات، فكيف يكون صدام الحضارات؟ وإذا كان اغتيال مفتي على قارعة طريق وتدمير مبنى على رئيس جمهورية وشارعٍ برئيس آخر، وتفجير رئيس حكومة في طيارة وآخر في سيارة، وزرع طرقات العاصمة بعبوات يحصدها ساسةٌ وكتّاب عبارة عن لحمة وطنية فكيف تكون لعبة الحرب والتدمير؟!
وإذا كانت مجازر التصفية "الدينية" في المخيمات والقرى، ومذابح العائلات المحصنة من جرود الأرز إلى سواحل فينيقيا، خلافاً لا يفسد في الود قضية، فكيف تكون الوحشية البشرية؟!
وإذا كان رسم الحدود بين مناطق
الطوائف وبناء الجدران بين طوائف المناطق تعبيراً عن الوحدة، فكيف يكون الإنقسام والتقسيم؟!
وإذا كانت قاعدة القسمة بين المذاهب تحكم كل شيء في البلاد من توزيع الرئاسات إلى أعتاب السفارات وحماية الفساد في الإدارات، فكيف يستوي الاجتماع على البناء والإنماء؟ وإذا كان لكل طائفة زعماؤها وأحزابها وميليشيلتها وجبالها ومحمياتها وتاريخها الخاص وجمعياتها ونواديها الرياضية والكشفية والثقافية وشعراؤها وكتابها وفنانوها، فما هي الثقافة المشتركة واللغة الموحّدة؟
ليس لبنان البلد الوحيد الذي عاش حرباً أهلية، لكنه قد يكون الوحيد الذي ما زال يعيش حروباً باردة بين طوائفه، تظهر علاماتها في لعبة كرة سلة أو في تعيين مدير كلية جامعية، أو حتى في تطبيق قانون على مخالف.
ليس لبنان الدولة الوحيدة التي خرجت من
حرب أهلية بشعار لا غالب ولا مغلوب، لكنه حتما البلد الوحيد الذي يتقاسم حكم نواحيه أمراء الحرب أنفسهم، ليس لمرحلة انتقالية فحسب بل لكل المراحل والفصول، وليس أدل على ذلك من رئاسة مجلس النواب ومن بورصة المرشحين الأقوياء لرئاسة الجمهورية.
ليس لبنان البلد الوحيد الذي يجاور أنظمة تعاديه أو تحاول الهيمنة عليه، لكنه بالتأكيد البلد الوحيد الذي لا يملك استرايجية دفاعية واستقلالية موحدة أو أولوية وجهة المقاومة بين جماعاته، أو حتى خطة رسمية تحظى بالإجماع لرد العدوان من كل الاتجاهات.
ليس لبنان البلد الوحيد الذي تنشب عند جاره حرب أهلية، لكنه البلد الوحيد الذي تقرر مكوناته الطائفية الذهاب على قدميها إلى تلك الحرب الشقيقة وباتجاهات متعاكسة، بالعسكر هنا وبالسياسة والإعلام هناك.
ليس لبنان البلد الوحيد الذي توزّعَ شعبه على أديان شتى، لكنه البلد الوحيد ربما الذي يصلّي كثيرون فيه ليس للسماء بل نكاية بأهل الأرض.
ليس لبنان مدينة الشيطان على الكوكب، لكنه حتماً ليس الصيغة الفريدة لحوار الثقافات في العالم كما يزعمون في كل نيسان، وليس ثمة بصيص أمل بأنه سيكون.