ويحكم أيها العرب، ماذا أصابكم؟ ما لكم تركتم أنفسكم ريشة في مهب كل ريح بل كل عاصفة، من عاصفة الصحراء التي كتبت شهادة وفاة النظام العربي منذ عقدين، إلى (عواصف الوهن) التي تبدو اليوم مؤشرات على نهاية العقل العربي نفسه؟ أين التعقل وقد إنساقت الدول فى مسارات أسفر فى النهاية الى أن تجرى كافة المعارك على أرض العرب وأن القصف يأتى من عربى على عربى بل داخل الدولة الواحدة بين مواطن وأخيه.
إن الخطاب العربي الراهن يكشف عن عوار كبير ليس فقط في واقعنا بل أيضا في رؤية هذا الواقع وإدراكه، أين ذهبت البصيرة في بلادنا، بل قل: أين ذهب البصر؟ ألا يرى الثرثارون المتنطعون ما تفعله الأنظمة العربية كل يوم من مخاز ومآس حتى يتناسوا كل هذا وينطلقوا في ملهاة ومسلاة جديدة من نسج الأساطير وبيع الأوهام، وقلب الحقائق، وتلبيس إبليس. يتضافر الفعل والخطاب اليوم ليرسما صورة متكاملة من مشهد "
الحول العربي الكبير".
فهؤلاء الحكام المتحكمون يتربعون لعقود على رؤوس الشعوب والبلاد والثروات، ويزعمون قيامهم على إدارة شئونها، وحماية أوطانها وأراضيها، وحفظ أمنها القطري والقومي، والدفاع عن مقدراتها وثرواتها، والعمل على تنميتها ورخائها، بل السهر على ذلك.. ولكن كل ذي عين لا يرى إلا مقلوب هذا كله. فالإهمال والفشل والتخلف من جهة وإهدار الثروات البشرية والمادية إلى درجة (إهدار الإمكانية) كما وصفها د.نادر فرجاني من جهة ثانية، وبيع الإرادة السياسية لتجار الشعوب بل للأعداء والمعتدين من جهات لا تحصر.. هذه هي حقيقة الحال وخيبة الآمال التي نعيشها وتهيمن علينا، فماذا هذه الزفة الكذابة؟، إنه (الحول) الذي أصاب النظر العربي منذ زمن ولا يزال يتسع.
تأتي زوبعة الوهن الراهنة لتكشف المزيد من تناقضات هذه الحالة العربية، وتزيد طينتها بلة ووحلة، على خلاف ما نراه أو يراد لنا أن نراه من زعيق ونعيق وضوضاء وادعاءات بأنها الفتح المبين والنصر المكين، والرأي الرشيد والقول السديد، وما هذا من مفهوم (الانقلاب) في الوعي والسعي ببعيد. هل يكون المدخل تشكيل قوة عسكرية عربية، أم المدخل يجب أن يكون الاستناد الى قاعدة واضحة للأمن القومى العربى تكافلا وتكاملا فيبلغ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بالاعتبار أن ذلك استراتيجية لا تتغير بتغير الأشخاص ولا إنقضاء حياتهم.
إنه الحول العربي الذي يأبى إلا أن يتهم بصائرنا وأبصارنا، ويتهمنا نحن بالعمى، ويحاول إكراهنا على رؤية أن العلبة فيها فيل، وأن الكفتة فيها دواء لكل داء. إنه الحول الذي طال مساحات حياتنا ومستويات الوعي والسعي كلها: المفاهيم والتصورات، والموازين والمعايير، والقضايا والأدوار، والسياسات، والخطابات، والعلاقات والتفاعلات، وتصور الأمن القومى، واحترام إرادات الشعوب.
الحول العربي اليوم يريد أن يسمي العجز والتردد والتواني والتراخي والتشتت والتبديد حزما، ويريد أن نرى في الزوبعة عاصفة، وفي تعقيد الأمور حلا للمشكلات، وفي ترك الحابل على النابل رعاية وعناية وتدبيرا، وفي ضرب العرب بعضهم بعضا جهادا وحفظا للأمن القومي العربي، وفي ترك غزة تحترق تحت نيران العدو والعميل بلا تحريك لأي ساكن ولو رمزيا، حكمة، وفي ترك إسرائيل تعيث في القدس والأقصى فسادا وبطرا وتلويثا وتدنيسا، سياسة وكياسة.
الحول العربي اليوم يرى الشرعية انقلابا والانقلاب شرعية حتى أصبح الناس لا يدرون ماذا يقولون، ويرى الديمقراطية استبدادا والاستبداد ديمقراطية حتى أصبحنا لا نعرف من نؤيد ومن نعارض، ويرى القمع حرية، والهوية خيانة وعمالة، والثورة إرهابا، والإسلامية جريمة، والشعبية ذنبا، والاتصال بالناس متاجرة، والانغزال عنهم ثقافة ونخبوية، ورفع الدعم عن الفقراء عدالة وكفاءة، والتنازل للرأسمالية المتوحشة انفتاحا ومرونة.. يختطف الرئيس المنتخب ويدفع بآخر منقلب، ويعطل المجالس النيابية المنتخبة ليعد بنوائب ونكبات مرتقبة، يعطل دستورا ليعدل دستورا ثم يلقي بالجميع في سلة مهملاته، ويرى في كل هذا الاعوجاج استقامة، وفي كل هذه الامتهانات عزا وكرامة.
الحول العربي اليوم يدمر سوريا ويبيد شعبها وينزع عنها سائر مقدراتها باسم التوازنات والتحالفات وإعادة ترتيب الأوضاع بين الثورة والطاغية، ويعيق استقرار ليبيا حتى تذعن للثورة المضادة وفلول القذافي أو تقف هكذا بلا حراك إلى يوم الدين، ويتلاعب بثورة تونس ويهدد مسيرتها إلا أن تتراجع ثورتها لتفسح المجال لفلول بن علي، ويحاصر غزة ويغذي صراعا فلسطينيا-فلسطينيا على خلفية استراتيجية الاستسلام العربي الأخير. أليس حولا مزمنا أن نرى عباس يترك المتراس ويرفع الراس ليطالب بضرب المقاومة بدعوى أنها انقلاب ولا يطالب بضرب العدول المحتل الذي يحاصره ويمتهنه كل ساعة... أيها الأحول الجالس بين العميان: ألا تستحي؟
الحول العربي اليوم يكرس التمدد الإيراني والصراع الطائفي والمذهبي في صورة محور يحيط بالخليج والجزيرة ويتسرب هنا وهناك: في العراق وسوريا ولبنان والبحرين وشرق السعودية والخليج وبالطبع: اليمن، ثم يفيق أو يتظاهر بالإفاقة بعد دهر داهر لكي يسمي هذا (حزما) بل عاصفة من الحزم. إن الجمع بين الضدين محال في العقول، لكنه ممكن في بلادنا التي ما عادت فيها عقول، يوما ما دخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على إحدى أزواجه وهو يقول فزعا: لا إله إلا الله (ويل للعرب من شر قد اقترب) ، وحين سألته: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث.. ونحن لا نريد للخبث أن يكثر، والخبث لا يكثر إلا حين نتعامى عن القليل منه، فما البال بالكثير الطاغي؟! فخذوا حذركم ايها العرب، فمن مأمنه يؤتى الحذر، دع عنك الغافل والمغفل.
مالى أرى من بعيد فصلا جديدا فى تراكم مشاهد "عقلية الوهن" تتمثل فى قتال على أرض عربية فى معارك مفتعلة، فى تجاهل لإرادات الشعوب وتأمين كرامتها ومكانة أوطانها، فى مشهد الوهن قال صدام من قبل إن تحرير بيت المقدس يمر بطهران، وردها عليه الخمينى أن تحرير بيت المقدس لا يمر إلا ببغداد، وأن الحوثيين اغتروا وأرادوا السيطرة على كامل البلاد فى اليمن تحركوا صوب صنعاء فعدن، وهم يهتفون الموت لإسرائيل وأمريكا، فما مات إلا يمنيون، أخوة فى وطن ومواطنة، وتحالف عربى ودول أخرى تضرب الحوثيين فما مات غير اليمن وأناس من اليمن، وها هي قوى في دول تريد تكرار ذلك فى دول عربية أخرى حتى سلطة تحت الاحتلال طالبت بضرب غزة.
وفى كل هذا ضاع الأمن القومي العربي ومات من أهل البلاد من مواطنين فى بلاد العرب، وأمنت إسرائيل" الكيان الصهيونى"، إذ يشتغل وينشغل هؤلاء العرب بقتال بعضهم، كل منهم يدعى أن تحرير بيت المقدس يمر ببلد ما من بلاد العرب يسميها ولا أحد يمس إسرائيل وكأنها لا تهدد الأمن العربي، ولكنها فقط حملت يافطة القدس، يدعون تحريرها حينما تُضرب فى كل مرة بلد عربي، يا سادة، طريق القدس وفلسطين واضح لا تخطئه عين، ولكن حينما تتحكم "عقلية الوهن" ستأتى لزوما مشاهد لا تنقطع من "الحول العربي الكبير"؟!، فما حُررت القدس وما ماتت إسرائيل !!.