كتاب عربي 21

رباعيات الأركان في مشروع الانبعاث الحضاري بين المنظومي والشبكي.. مشاتل التغيير (35)

سيف الدين عبد الفتاح
" حاولنا طرح الأسئلة في شكل مصفوفات شبكية، قد يعين على تقديم الإجابة المركبة الشبكية والعلائقية من دون الوقوع في براثن الاختزال"- جيتي
" حاولنا طرح الأسئلة في شكل مصفوفات شبكية، قد يعين على تقديم الإجابة المركبة الشبكية والعلائقية من دون الوقوع في براثن الاختزال"- جيتي
من المهم في هذا المشروع الحضاري (الانبعاث الحضاري)؛ أن نؤكد على أركانه وأعمدته التي تحمله، فالبداية كانت بالتذكير بأن هذا المشروع حمل أركانا عدة ورباعيات متنوعة، تلك الأسس والأركان تشكل جزءا لا يتجزأ من هندسته وعمارته، ضمن تصورات كلية تؤسس لتكامل مبانيه، وعمق معانيه، وبيان مغازيه، تمثل في جوهرها تفكيرا منظوميا وشبكيا في آن.

من أهم أهدف إثارة الأسئلة التي اعتمدها مشروع الانبعاث الحضاري والسؤال الرئيس والبديل الذي أشرنا إليه؛ هو اعتماد الفكر الشبكي والمنظومي، الذي يسهم بدوره في إنتاج الأنساق المعرفية والحركية على نحو فعال. وقد تكون محاولة الإجابة عن السؤال النهضوي بمنظومة أسئلته المتتابعة والمتراكمة هو المنهج الصحيح في مثل هذه الشبكة من أسئلة النهوض والتغيير والإصلاح. وفي هذا الصدد يجب أن نتساءل عن الناظم لذلك السؤال المجمع من جهة، وكذلك ربط تلك المنظومة بنسق التغيير والإصلاح والنهوض من جهة أخرى.

عندما شرعت في الكتابة حول أسئلة تولدت وتفرعت عن مسألة النهوض، قفز إلى ذهني؛ لماذا الأسئلة والتفكير فيها غالبا ما يؤدي بنا إلى الاختزال في الإجابة والاستجابة، أو الاقتصار على الأسئلة المنفردة والاستجابات المرتبطة بها على نحو من التجزؤ والانفراد، ربما دفعني هذا إلى أصول الفكر المنظومي والتفكير بالأنساق، فربما لو حاولنا طرح الأسئلة في شكل مصفوفات شبكية، قد يعين على تقديم الإجابة المركبة الشبكية والعلائقية من دون الوقوع في براثن الاختزال أو عمليات التفكير الجزئي دون الكلي، أو التحرك إلى تقديم إجابات مبسطة لا ترتقي لقيمة السؤال وتأثيره على مجمل مسألة النهوض التي تتراتب فيها مسألتا الفكر والحركة.

التفكير المنظومي هو القدرة على تحويل طريقة التفكير إلى نماذج (مثل الخرائط الذهنية) لفهم العلاقات المركبة. إن ارتباط المنظومية بالشبكية كما يتضح؛ يمدنا بمنهج نظر في الاجتماع وفي الداخلي والدولي على حد سواء

ويعرّف البعض التفكير المنظومي بأنه القدرة على تحويل طريقة التفكير إلى نماذج لفهم العلاقات المركبة. وهناك أربع عمليات معرفية يجب تطويرها للوصول إلى تفكير منظومي؛ أولها السبب والنتيجة، فإن أساس التفكير المنظومي أن يكون من يقوم به واعيا بأنه يفكر في نماذج واضحة، وتكون لديه القدرة على بنائها وتحليلها. أما الثانية فهي الارتباط والعلاقة؛ أي معرفة الارتباط المباشر وغير المباشر والعلاقات المركبة والسببية، لأن تحليل الموقف والمشكلة يتطلب معرفة قوة الارتباط ونوع العلاقة. والثالثة الجزء والكل؛ فالتفكير المنظومي تفكير دائري، ينمي قدرة الفرد على الرؤية الشاملة لموضوع دون أن يفقد جزئياته، وكذلك إنماء القدرة على التحليل والتركيب وعلاقة الكل بالجزء وعلاقة الأجزاء ببعضها البعض، وعلاقة كل منها بالموقف الكلي. أما الرابعة والأخيرة فهي المدى القريب والبعيد، هو تفكير شبكي يربط بين الماضي والمستقبل ويقيس الآثار والمآلات.

بلغة بسيطة، يمكن القول بأن التفكير المنظومي هو القدرة على تحويل طريقة التفكير إلى نماذج (مثل الخرائط الذهنية) لفهم العلاقات المركبة. إن ارتباط المنظومية بالشبكية كما يتضح؛ يمدنا بمنهج نظر في الاجتماع وفي الداخلي والدولي على حد سواء.

يعتقد الكثيرون بأن الشبكية بزغت ووُجدت فقط بعد الثورة التكنولوجية وانتشار الحواسيب وشبكات الإنترنت، لكن لم يتصور أحدنا أن الشبكية جزء منا وجماليتها موجودة حولنا في كل مكان، نحن نعيش الشبكية في صور متعددة، ولكن دون أن نعي لهذا.

إذا، الشبكية عملية موجودة منذ الأزل، ولكن لبداهتها فقدنا القدرة على التعبير عنها، أو استشعار جمالها أو اتخاذها حلا لبعض المشاكل. لتوضيح كيف أن الشبكية موجودة فينا وحولنا، سنعرض بعض الأمثلة للتفكر والتخيل. فمثلا الخالق سبحانه وتعالى خلق فينا خلايا عصبية مترابطة على شكل شبكة في أجسامنا تقوم بإيصال الأوامر من الدماغ إلى جميع أجزاء الجسم، وبالعكس من الجسم إلى الدماغ، فشبكية هذه الخلايا العصبية تجعل الرسائل تصل بسرعة وكفاءة. وكذلك نرى الشبكية في صورة تعاون النحل الذي يصنع لنا الشهد، فنرى النحل في مملكته يتعاون لجمع الرحيق وتنظيمه في خلاياه الشبكية في نسق وتنظيم مرتب.

ونرى أن تشابك الزخارف الإسلامية وكذلك الخط العربي هو ما يضفي عليها جمالية وطابعا خاصا يشيد به حتى الغرب الذي لا يفهم بالضرورة العربية، ولكنه يقدر جمال الخط العربي وزخرفة العمارة الإسلامية المتشابكة. من هنا نرى فعلا أن الشبكية عملية وصور موجودة حولنا منذ الأزل، رغم أن انتشارها وتداولها جاء من الغرب مؤخرا وغزا ميادين الحياة المختلفة. هذا هو أصل الشبكية في أبسط صورة.

المفهوم الذي أتانا من الغرب ويحوي الشبكية يُدعى بـمفهوم الحوكمة الشبكية. جاء هذا المفهوم وأصبح لصيقا بالعديد من المجالات، وجاء بكثير من التحديات والأمور التي يتوجب على أمتنا أن تكون واعية لها. فالشبكية بحد ذاتها كمفهوم لا ضير فيه، لكن دمجها وإلصاقها في جميع المجالات كحل هو مكمن الضرر الذي يجب أن ننتبه له، ومن ثم دراسة مفهوم الشبكية من منظور اجتماعي واتصالي والعودة بالذاكرة إلى التراث الإسلامي لنجد المفهوم الأصيل، ومن ثم محاولة إعادة بنائه من منظور إسلامي.

فالشبكية لها جذور عميقة في ذاكرتنا وتراثنا الإسلامي، وهي تعبر عن القوة والتماسك، والتعاون، والاتحاد والائتلاف، ففي القرآن الكريم يقول ربنا جل وعلا: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ" (الصف: 4)، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول إن التماسك والتعاون من أسباب النصر. وكذلك خطاب الله بصيغة الجمع فيه دلاله على ضرورة وبداهة وجود الشبكية، كما في خطابه سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).

ونرى فكرة الشبكية جلية في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ثم شبك بين أصابعه" (متفق عليه). وعن كعب بن عجرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا توضأ أحدكم، ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي). كما وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم حدا لعدم التفاعل مع شبكة الجماعات لمدة لا تتجاوز عن ثلاثة أيام، حتى لا تصير الفرقة وتضعف الشبكة. فعن أَنَسُ بْنُ مَالِك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ".

وفي التعاون الناتج عن الشبكية قال القرطبي رحمه الله: "فواجب على الناس التعاون، فالعالم يعين بعلمه، والغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم". وأيضا قيل في الحكمة المأثورة: "إن الإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه".

وقد أبدع "مالك بن نبي" في كتابه "ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية" الذي كان في نيته أن يتابع الموضوع في أكثر من مُؤلف حينما رقم كتابه بالأول. ويعد مالك بن نبي من أهم من كتب في الشبكية الاجتماعية؛ ففي تعريفه لشبكة العلاقات الاجتماعية ينظر للمفهوم باعتباره مفتاحا لفهم درجة وتماسك وقوة مجتمع معين. وهو العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، فالمجتمع حسب مالك بن نبي ليس مجموعة من الأفراد أو الجماعات المتجاورة بحكم الجغرافيا أو التاريخ أو الانتماء العرقي، بل هو شبكة علاقات اجتماعية، وقوة مجتمع معين ودرجة عافيته كامنة في مدى قوة شبكة العلاقات المذكورة ودرجة توترها، ودرجة ضعف مجتمع أو انحطاط مجتمع تكمن في ارتخاء وتفكك شبكة علاقاته الاجتماعية.

وبما أن مالك بن نبي كان يستحضر نموذج المجتمع كما تشكل في عهد الرسالة، فإن شبكة العلاقات التي يتحدث عنها ويعتبر أن لها الأولوية هي بالدرجة الأولى شبكة علاقات روحية وأخلاقية وثقافية؛ فشبكة العلاقات الاجتماعية تعد الوسيلة التي يتم من خلالها تكوين الصلات والروابط الضرورية بين عناصر التغيير الاجتماعي. وشبكة العلاقات الاجتماعية أيضا هي العنصر التركيـبي الآخر الذي يتحقق بوجوده الجهد الإنساني في صورة إنجاز حضاري في التاريخ.

مفهوم الشبكة الاجتماعية عند مالك لم يكن أبدا بعيدا عن المنظومية والشبكية؛ المعرفية والمفاهيمية والقيمية والحركية والحضارية بالجملة. بدأنا ذلك بالتذكير بالشبكية المنهجية؛ الوصل والصلة فيما بين الأطر البحثية لمناهج التفكير التي تشكل المقدمات الأساسية ومناهج البحث التي تمثل الطرائق والأساليب في البحث والدرس، كل ذلك من الأمور المهمة في تلك العمليات، وأن الوصل بين هذين الأمرين (مناهج التفكير ومناهج البحث) من جهة أخرى يتطلب وصلا بصيرا لكل أدوات التفعيل بمناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير؛ رباعية في غاية الأهمية بينها عروة وثقى لا انفصام لها، مناهج التفكير ومناهج البحث ومناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير؛ تكامل المنظومية والتشبيك، ثم عكفنا بعد ذلك على تبين شبكية الأركان المتنوعة الأخرى التي تتساند وتتكامل مع سابقتها؛ نمر عليها المرور السريع وإلا أن كل رباعية منها تستحق مقالا منفردا وربما يزيد. فمن تلك الرباعيات:

الأولى: مشروع الانبعاث وأنساق المنهجيات:

* الفلسفة والرؤية الكلية.

* البنية والأطر التنظيمية.

* التجليات الحضارية.

* السياقات الواقعية.

والثانية: أسس المقارنة النماذجية والسياقات المعرفية:

*روية العالم.. التوحيد، الكون، الإنسان، الحياة.

* المفاهيم.

* الأطر المرجعية.

* الأمة.

والثالثة: الأنساق والنماذج المتعينة:

* المنظور الحضاري.

* النماذج الحضارية.

* الأنساق المعرفية.

* الأنساق والبنى الاجتماعية والمؤسسية والعلوم الاجتماعية.

والرابعة: المصادر التأسيسية:
رباعيات بعضها من بعض، تنتظم وتتشابك وتشتبك ضمن مشروع النفس الطويل؛ مشروع الانبعاث الحضاري يفتح الباب واسعا لمشاتل التغيير والفاعلية والتأثير

* المقدمات والتأسيس (المرجعية والوحي).

* المقومات.

* المقولات.

* الأعلام: مثل الفاروقي والمسيري وأرنولد توينبي، أعلام المنظور الحضاري، ومدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

والخامسة: على قاعدة من ذلك برزت تشكيلات مهمة:

* الأسئلة.

* التدريبات.

* الأوعية التشكيلات.

* مجالات الاهتمام وزوايا التركيز واستثمار المسارات.

والسادسة: منها رباعية مفاهيم تأسيسية في التأصيل والتنزيل:

* اللحظة الفارقة والكاشفة.

* التغيير (الانتظام السنني وحركة التاريخ).

* التدافع.

* المراحل الشرطية وإرهاصات الانتقال الحضاري.. الواقع والمستقبل.

والسابعة: التي تتولد عن ذلك في رباعية العقليات المتكافلة والمتكاملة والمتساندة:

* العقلية الكاشفة.

* العقلية الفرقانية الفارقة.

* العقلية المُراجعة.

* العقلية البانية.

رباعيات بعضها من بعض، تنتظم وتتشابك وتشتبك ضمن مشروع النفس الطويل؛ مشروع الانبعاث الحضاري يفتح الباب واسعا لمشاتل التغيير والفاعلية والتأثير.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)