الوضع المتردي سياسياً واقتصادياً وأمنياً جعل الأنظار تتجه إلى المغرب طلباً لاستقرار قد ينجح في تحقيقه المجتمع الدولي، بعد أن فشل في تحصيله الليبيون. فلقد علق قطاع واسع من الليبيين على عملية الكرامة آمالاً كبيرة فكانت نتائجها على الأرض صادمة للكثيرين منهم.
في
طرابلس ومعظم مدن الغرب الليبي ينعم الأهالي بوضع أفضل من الاستقرار وتدفق الخدمات قياساً بالوضع المأساوي في مدن الشرق، لكن لا تزال مقومات الاستقرار الدائم مفقودة، والمقصود ثبات الوضع ببناء مؤسسات سياسية وأمنية على أسس سليمة قابلة للاستدامة.
فالجميع يرنون بأنظارهم وآمالهم صوب الغرب رجاء أن يتوافق ممثلو الأطراف المتصارعة، فيعود المسار الديمقراطي إلى طبيعته ويجتمع "شمل" الليبيين من جديد.
ومع يقيننا بأن هناك فرصة للتوافق، إلا أن التحديات الكبيرة قد تعيق تقدم الحوار وتؤخر النتائج المرجوة.
فليس من المتوقع أن تسفر جولة الحوار المنعقدة في المغرب عن نتائج مهمة فيما يتعلق بالأهداف المرسومة من الأمم المتحدة، فالمساحة المشتركة محدودة أو شبه مفقودة، والضغوط على المتحاورين كبيرة بحيث يصعب أن تجد أي اتفاقات محتملة صدى إيجابياً في كل من طرابلس وطبرق.
بالقطع يمثل التئام الاجتماع في المغرب خطوة مهمة، بعد تعليق البرلمان مشاركته في الحوار على خلفية الانفجارات التي وقعت في "القبة"، والتي أسفرت عن مقتل وجرح ما يزيد عن 140، ولقد أوحت تصريحات الطرفين خلال الأسبوعين الماضيين عن اتجاه للتقارب، فبعض من عرفوا بمواقفهم المتشددة تجاه الآخر تحدثوا بلغة مختلفة، بل ووجهوا سهام انتقادهم إلى الشركاء في الموقف وليس الخصوم.
ما يثير الاهتمام هو استئناف جلسات الحوار بعد يومين من
غارات شنها طيران
حفتر على مطار امعيتيقة وعلى مرافق حيوية في العاصمة والمناطق المجاورة. فمن جهة يمكن أن يعطي تركيز حفتر في قصفه الجوي على مطار امعيتيقة - الذي استُهداف بأربع غارات خلال الأيام القليلة الماضية - انطباعاً باتجاه معسكره وموقفهم من اجتماعات المغرب، ومن جهة أخرى يظهر تجاهل معسكر طرابلس ممثلاً في المؤتمر الوطني للضغوط التي يمارسها حفتر عزماً على تفويت الفرصة على المتشددين في
طبرق، ورغبة في أن يظهر معسكر طرابلس أكثر رشداً وحرصاً على الحوار وعلى الوصول إلى توافق. بمعنى أن المؤتمر لم يعلق مشاركته في اجتماعات المغرب احتجاجا على استهداف حفتر لمطار مدني، وكان يمكن أن يكون التعليق مبرراً على أساس أنه انحياز إلى المدنيين الذين تتعرض حياتهم للخطر، ولكنه لم يفعل. وهذه ربما الرسالة القوية التي أراد المؤتمر إيصالها للمجتمع الدولي. بمفردات أخرى، ربما أراد المؤتمر وفجر ليبيا القول للمجتمع الدولي "لعلكم ترون من هو الأحرص على الوفاق وعلى حل الأزمة سلمياً، ومن هو المسعر للحرب الذي ينطبق عليه وصف الإرهابي".
تجاوب المجتمع الدولي فيما يتعلق بطرفي الصراع بطيء ولكنه يتحول، ومن علامات تغيره، الأحداث المتسارعة على الأرض. ومما لا شك فيه أن ما تبطنه الأطراف الدولية أكثر مما تلعنه، ولهذا أسبابه، وفي مقدمتها أن الإعلان عن التغير في الموقف الغربي حيال طرفي الصراع قد يربك الحوار، أيضاً تتخوف الأطراف الغربية من أن يوظف موقفها الجديد لصالح "المتشددين".
ومما لا شك فيه أيضاً أن المزاج الداخلي هو رهن للتحول في موقف الأطراف الدولية، وأن تحولات مهمة على المستوى المحلي قد تقع عندما تتضح ملامح المشهد على المستوى الخارجي.
براغماتية المحاورين في الغرب ونسبة التناغم والانسجام المقبولة في معسكر طرابلس، يقابلها إرباك واضح في معسكر طبرق، فإصرار مجموعة من أعضاء البرلمان على المشاركة في الحوار ربما يأتي كاستجابة للضغوط الخارجية، لكنه يمكن أن يُفسر من خلال التجاذبات الحادة تحت قبة مجلس النواب، وربما يكون تعبيراً عن عدم الارتياح للمسار الذي يغلب على قطاع من معسكر طبرق، الذي تم التعبير عنه بتنصيب خليفة حفتر قائداً عاماً للجيش.
هذه التناقضات وغيرها تصعب من إمكانية أن تسفر اجتماعات المغرب عن نتائج مهمة يتوقعها الليبيون، وفي حال تم الإعلان عن نتائج إيجابية فإنها ربما تكون تكيفاً لا يعكس تعقيدات الواقع، مما يعني أن مقاربة الحوار السياسي على مستوى القيادات السياسية ينبغي أن تصاحبها حوارات على مستويات عدة، تنتهي بالمسارات الحوارية المتعددة إلى نقطة التقاء واحدة.