مشهد خارجي/ نهاري
يمشي محمود وهو يضع يده على ابنه على طول شارع. ملامح محمود كلها فخر واعتزاز بهذا الولد الذي يذهب إلى المدرسة عكس ما عاشه أبوه.
محمود: درسوا لك إيه في المدرسة النهار ده يا عبد الله؟
عبد الله: تاريخ.
محمود: الهرم وأبو الهول يعني؟
عبد الله: لا. الثورة.
محمود: الثورة؟ يا نهار أزرق. لحقوا يكتبوها ويدرسوها لك امتى؟
عبد الله: الثورة بتاعت زمان.
محمود: آه.
يمران أمام محل للتصوير..
محمود: المحل ده مكتوب عليه إيه؟
عبد الله: أستوديو ناجي للألوان الطبيعية.
محمود: ناجي مين يا واد؟ صاحبه اسمه عباس. أستوديو عباس للألوان الطبيعية.
عبد الله: إيلي تشوفو يابا.
هذا بالضبط ما حاول المخرج يسري نصر الله تطبيقه في فيلمه (بعد الموقعة) الذي اتخذ من موقعة الجمل التي شهد ميدان التحرير فصولها في الثاني من فبراير 2011 خلفية درامية له. ففي الفيلم انتصر الموقف الإيديولوجي على الإبداع السينمائي، وربما كان للإنتاج المشترك مع مؤسسات فرنسية يد في الشكل النهائي للفيلم وما احتواه. فمع المشهد الافتتاحي الذي تلا صور الواقعة الحقيقية، أدخلنا المخرج في أتون تموقع واصطفاف إيديولوجيين جعلاه يحاول طوال فيلمه مسك العصا من الوسط دون قدرة على الجهر بموقف واضح من الأحداث وما تلاها، خصوصا ما تعلق منها بـ"المهاجمين" من أبناء نزلة السمان و"فلول" النظام السابق المتهمين بالوقوف وراء تجييش الخيالة والجمالة البسطاء.
وبالرغم من كل ذلك لم يخل الفيلم من حس حرفي عال كرس مكانة يسري نصر الله كمخرج سينمائي متمكن من أدواته الإبداعية. ففي مشهد الولدين (أبناء محمود) وهما يؤديان لعبة الحصان وراكبه، لخص المخرج علاقة السلطة بالشعب في أنظمة الاستبداد العربية. فالشعب في أحسن الأحوال أحصنة طروادة يستثمرها النظام حسب احتياجاته يقودها حيث يشاء ولا تجد عن الانصياع له بديلا. وقد كان واضحا كيف أن هذه الشعوب تصطنع لها سلطانا وتنسج عنه الروايات والأساطير لـ"تفوض" له أمر قيادتها ولو كان إلى القاع. ورقته الرابحة في ذلك كونه "رمزا" لقوة منظمة تعرف كيف تلاعب بقية "القوى" الموجودة على الأرض استقطابا وإقصاء.
"الخيالة" في فيلم يسري نصر الله مجرد "بيادق" تجلس على قارعة الطريق/البلد تستجدي دورا ولو بسيطا يسمح لها بالعيش في حده الأدنى. وفي غياب الإشارة تقضي وقتها في التسابق مع الناشئ والرهان علبة سجائر مستوردة يجتمعون على تدخينها في النهاية وعيونهم شاخصة إلى الهرم رمزا لتاريخ قيل إنه مجيد، على هامش معيش يومي قاس كرسه الإقصاء في سابق الثورة وتاليها. ففي السابق أقامت الدولة جدارا فاصلا بين نزلة السمان والأماكن الأثرية/ وجه
مصر أمام العالم المتحضر. وفي التالي جدار نفسي جعل سكان نزلة السمان منبوذين من طرف "الثوار الجدد" يحملونهم سوء فعلة بعض منهم في موقعة لو نوقشت بهدوء لظهر أن الثورة ما كان لها أن تستمر دونها. الجدران الفاصلة ليست حكرا على فلسطين المحتلة، بل امتدت إلى داخل الدول العربية حيث تحتاج كثير عناء، على مستوى العقليات والأحكام الجاهزة، لتسقط إيذانا بتحرير الإنسان وبعد الأوطان. أما الخيول، بما تمثله في الثقافة العربية من رمز للعزة والسمو، فهي في الفيلم إما تتضور جوعا حتى تموت في نزلة السمان في انتظار دعم علف قد يأتي أو لا يأتي، أو تتراقص في الموالد والاحتفالات. وهي في كلتا الحالتين مجرد حيوانات مسيرة، كأصحابها، والكفيل نفسه الحاج عبد الله، أحد رموز زمن سابق يأبى إلا أن يستمر في تصدر الصورة ولو في الخفاء، متحكما في رقعة الشطرنج في انتظار العودة إلى الواجهة في اليوم الموعود. هم مجرد قطع غيار وأدوات تستبدل حسب الحاجة. أما الاستغلال فلا يزال هو هو في السياسة والاقتصاد وعلى مستوى المكبوتات الجنسية الخفي منها والظاهر.
مشهد خارجي/ نهاري
داخل مزرعة. يقف الحاج عبد الله وبجنبه محمود..
محمود: والله يا حاج الواحد مش عارف البلد ده رايحة فين
الحاج عبدالله: حترجع زي ما كانت بالضبط، بس من غير حسني
مبارك..
إعادة كتابة تاريخ 25 يناير والموقعة وما بعدهما انطلق منذ اليوم الأول لتخلي مبارك عن الحكم وتسليمه للمجلس العسكري. وكانت المعارك السياسية المختلقة التي أدت برفقاء الميدان إلى الإجهاد في معركة اصطفاف إيديولوجي قاتلة، بحشد إعلامي غير مسبوق حاول "تزوير" الحقائق بالطريقة ذاتها وباليسر نفسه الذي تحول فيه (أستوديو ناجي للألوان الطبيعية) إلى (أستوديو عباس للألوان الطبيعية).. الأثر الأهم على مسار ثورة ابتدأت "نظيفة" قبل أن تمتد لها أيدي "العابثين" و" إيلي تشوفو يابا ". وعلى طول دقائق الفيلم بدا أهل نزلة السمان، ومعهم أبناء مصر، مسيّرين إلى مستقبلهم المرسوم يؤدون الأدوار كما سطرت، وإن حاولوا التمرد بين الحين والآخر كان الإقصاء من العطايا مصيرهم، أو محاولات الإقصاء من الحياة إنذارا .
بعض شخصيات الفيلم فهمت أن أحلام الثورة الرومانسية واندماج طبقات الشعب مجرد وهم انكسر على صخرة واقع أبى أن يتغير وأراد من نزلة السمان أن تعيش لعنة موقعة الجمل ولعنة الاعتداء على ميدان التحرير، بل أن تتوارثها الأجيال. والنتيجة في الأخير استغلال لها ولجزء كبير من الشعب في النزول إلى الشوارع تحت الطلب للتفويض في الفصل الثاني من الموقعة المدعومة بطيران حربي يرمي بالورود والأعلام على "الثوار الجدد".
مشهد داخلي / نهاري
تقف ريم (ناشطة ثورية) وفاطمة (زوجة محمود) داخل المطبخ..
ريم: لما ابنك حيرجع المدرسة حيضربوه ثاني... وانت مشاكلك حتزيد وزوجك حيضرب فيك.
فاطمة: ... ابني إن شاء الله حيتعلم وزوجي معذور برضه. ماهو طول النهار بيتعامل مع بهايم وأحصنة.. وبعدين هما كده (تتذوق الطبيخ) واحنا متعودين عليهم.
ريم: إنكم تتعاملوا زي البهايم؟
فاطمة (تمد لها الملعقة): تذوقي؟
ليس هناك أبلغ من هذا المشهد لتلخيص واقع شعب عاش موقعة الجمل، لكنه إلى اليوم يطرح التساؤلات عمن كان ورائها ومن المستفيد، بل إن هناك من يدعي أنها لم تقع أصلا كما هو حال أسامة سرايا، رئيس تحرير جريدة الأهرام السابق، في لقاء على البي بي سي بمناسبة الذكرى الرابعة للخامس والعشرين من يناير.