تشبه دعوته السماح بزراعة الحشيش التي كانت خلال الحرب الأهلية
اللبنانية (1975-1990) صناعة مزدهرة تدر ملايين الدولارات، العبارة الشهيرة التي نسبت إلى ماري أنطوانيت ملكة فرنسا "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء.. دعهم يأكلون كعكاً"، فالبلاد غارقة حتى أذنيها بالفوضى السياسية، و"داعش" و"جبهة النصرة" تشعلان جبهة عرسال.
أخطبوط وألعبان السياسة اللبنانية، وحاوي يخرج من قبعته أرنبا أو حبلا طويلا من المناديل الملونة.
دائما ما يرفع درجة حرارة التوقعات والملفات الداخلية في لبنان، يقطع ويوصل علاقاته مع الحلفاء والخصوم في لبنان وفي سوريا بناء على مزاجه المتقلب مثل عقرب الساعة.
كان يبقي دائما شعرة معاوية مع دمشق حتى حين وصفها ذات مساء بـ"الرجل المريض" كما كان حال الدولة العثمانية في أواخر أيامها.
وبين اغتيال والده، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وتقرير المحقق الألماني ميليس المليء بالثغرات والثقوب، احتل وليد
جنبلاط بلا منازع قمة الضبابية السياسية، وأصبح ملكا متوجا عليها، و تأرجحت مواقفه بين الاقتراب إلى حد التحالف والابتعاد إلى أقصى درجات العداء.
فحليف الأمس يمكن أن يكون ألد خصوم اليوم، والعكس معه صحيح، ذات يوم قال إنه لن يزور البطريرك الماروني نصر الله صفير لأن خطابه "عنصري"، "تقسيمي"، "تحريضي"، ونصحه بالاختيار "بين الصلاة والسياسة"، لكنه عاد وتحالف معه ومع جماعة "قرنة شهوان" المسيحية.
السيناريو نفسه تكرر مع سمير جعجع قائد القوات اللبنانية، ففي الماضي رفض فكرة العفو عنه وطالب بتسفيره بعد انتهاء محكومتيه ليلحق بالعماد ميشيل عون ويتسلى معه في باريس، أثناء الانتخابات البرلمانية زار جنبلاط نفسه ستريدا جعجع زوجة القيادي المحبوس آنذاك وطالب بإطلاق سراحه كأنه لم يقل كلامه السابق، أما أمين الجميل حليف اليوم فقد كان بنظره "شاه بعبدا" أو "سوموزا - دكتاتور نيكاراغوا السابق" وفي كل مرة يتقلب فيها كان يقدم لأنصاره التبريرات.
وحتى وقت قريب لم يكن ضد الوجود السوري في لبنان مقرا بتضحيات دمشق في سبيل بسط الاستقرار، لكنه عاد وعدل رأيه بأنه ضد "الوجود المخابراتي السوري".
الذين يتعاطون العمل السياسي يعرفون ردّات فعله التي ترسم خطه السياسي دون أن ينظر وراءه أو أمامه.
مواقفه مجموعة تراكمية يختلط فيها الأبيض والأسود، الماضي والحاضر، الحقيقة والخرافة، الوضوح والباطنية، الانفتاح والتقوقع، الاشتراكية والترف.
كان عليه أن يثبت أنه ابن ذلك الرجل الذي أسس ورأس الحزب التقدمي الاشتراكي، وأظهر لاحقا براعة في الدخول في لعبة المعادلات السياسية الصعبة، المحلية والإقليمية، فبات يحلو للسياسيين وصفه بأنه «صاحب الانتينات»، إي الهوائيات، في إشارة إلى مقدرته على التقاط اتجاهات الأحداث باكرا.
أصل عائلته كردي، اعترف بهم العثمانيون وعينوا منهم حسين باشا جانبولاد حاكمًا على كلّس-حلب، وأصل اسمهم "جان بولاد" ومعناها بالكردية "ذو الروح الفولاذية".
ولد في بلدة المختارة بقضاء الشوف في لبنان في آب/ أغسطس عام 1949، درس المرحلة الابتدائية في «الكلية العلمانية الفرنسية» في بيروت حتى عام 1961، وفي عام 1969 أنهى المرحلة الثانوية في «الإنترناشونال كولدج» في بيروت، وفي عام 1973 نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت.
درس مادة التاريخ في «الجامعة الوطنية» في عالية. عمل في ملحق جريدة النهار وكتب العديد من المقالات الاقتصادية والسياسية. بين عامي 1979 و1980 كتب كلمة «صحيفة الأنباء»، وهي الجريدة الناطقة باسم الحزب التقدمي الاشتراكي.
حينما بلغه نبأ اغتيال والده اعتبر الأمر مزحة سخيفة، ولم يستوعب ما حدث، فقد كان وليد جنبلاط ابن السابعة والعشرين ربيعا شابا عزوفا عن السياسة مفضلا عليها ركوب الدراجات النارية وارتداء الجينز انصياعا لثقافته الغربية التي مكنته من إجادة اللغتين الانجليزية والفرنسية.
آذار/ مارس عام 1977 كان تاريخا فاصلا حول مجرى حياته، فقد قتل كمال جنبلاط الحائز على وسام لينين، والمناضل والفيلسوف والمفكر القومي، الذي خرج من زعامته للجبل ليتزعم كل لبنان، كما انسل من طائفيته الضيقة ليتقدم إلى قائمة المناضلين من أجل القضية الفلسطينية ومناضلي اليسار العربي والدولي.
والدته هي مي أرسلان، ابنة شكيب أرسلان الملقّب بـ«أمير البيان»، هذه الرابطة العائلية أوجدت شيئا من التوازن داخل صفوف الطائفة الدرزية بين أنصار البيتين المتنافسين على الزعامة: بيت جنبلاط وبيت أرسلان، هذا التنافس جمد مرة واحدة في ما سمي بـ«حرب الجبل» التي خاضها وليد جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي إلى جانب سوريا لإسقاط الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي آنذاك ضد «القوات اللبنانية»، فكان أن انتهت المعركة السياسية بسقوط الاتفاق والمعركة العسكرية بسيطرة جنبلاط على جبل لبنان الجنوبي "الشوف وعالية وجزء من بعبدا بمسيحييه ودروزه".
دخل إلى البرلمان اللبناني عام 1991 وذلك بعد التوقيع على اتفاق الطائف، ولملء المقاعد الشاغرة بفعل الوفاة، حيث اختير عضوًا بديلًا عن والده كمال جنبلاط، وانتخب بعد ذلك عضوًا بانتخابات أعوام 1992 و1996 و2000 و2005 و2009. وكان قبلها وأثناء الحرب الأهلية قد عين وزيًرا، وقد تولى خلال حياته عددًا من الوزارات: الأشغال العامة والنقل والسياحة ووزير دولة ووزير دولة لشؤون المهجرين.
الملف الأبرز في حياته علاقته المتقلبة مع دمشق، فقد تعرضت للاهتزاز والتنقل من التحالف الكامل إلى العداء الكامل، ومنها ما هو مستمر حتى اليوم على خلفيات كثيرة من بينها انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1998، غير أن الهوة اتسعت بينه وبين سوريا بعد تمديد ولاية لحود عام 2004، ثم دخلت عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في المشهد.
بعد الطائف أدرك جنبلاط أن المرحلة مرحلة سوريا بتفويض عربي أميركي وقبول لبناني، قبول حقيقي أو قسري أو مدفوع، عندها قرر "وليد بيك" الالتحاق بالركب، ودخل الوزارة الملتزمة بسوريا مزايدا على أعضائها بالقول إن أصول الجنبلاطيين حلبية، بل إن جزءا من عائلته ما يزال في حلب.
لكن بعد اغتيال الحريري أدرك "البيك" أن المرحلة قد تغيرت، وأن التفويض الأميركي العربي للشام قد انتهى، فقرر نقل البندقية إلى الكتف الأخرى، بل قرر المزايدة على جميع الذين يحملون البندقية على تلك الكتف.
ولأن الجائزة كبيرة، ولأن حجم الطائفة صغير، فلقد كان على جنبلاط أن يكون الأعلى صوتا في صراخه ضد «النظام الأمني اللبناني السوري»، صراخ توج بحفلة شتائم كالها للرئيس السوري بشار الأسد ناعتا إياه بأفظع الأوصاف والنعوت.
أيار/ مايو 2008 كان موعد جنبلاط مع واقع جديد، لقد كانت المعارك مع "
حزب الله" تجري عميقا في مناطق الشوف، في بعقلين وتلال الباروك وفي محيط دير القمر، وكان حلفاؤه "تيار المستقبل" بقيادة الحريري الابن قد سقطوا في امتحان الساعات الأولى من المعارك حين دحروا أمام ميليشيا "حركة أمل" التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري. وكان كل رهانه على تدخل أميركي أو إسرائيلي قد خذل من قبل إدارة الرئيس جورج بوش، رغم أن هذه الإدارة هي التي حمست جنبلاط وحلفاءه على فتح المعركة مع "حزب الله".
قبل تلك الأحداث بعام ونصف كان جنبلاط قد راهن على "إسرائيل" بتوجيه ضربة قاصمة لـ"حزب الله" خلال عدوان تموز/ يوليو عام 2006، لكن لسوء حظه فقد فاز "حزب الله" وتعزز نفوذه لبنانيا وإقليميا ودوليا، وكان المشروع الأميركي في العراق قد بدأ يتعثر بفعل المقاومة العراقية، وبدا أن مخطط الشرق الأوسط ومعه حلم الدولة الدرزية قد بدأ بالاندثار، فكان لا بد من إعادة توجيه البوصلة وتغير اتجاه البندقية.
لم تعد هناك دولة درزية في الأفق، وكان عليه أن يرضى بالحجم المخصص له في لعبة الكراسي اللبنانية، فهو سيبقى رابعا في دولة الطوائف في لبنان بعد "السنة" و"الشيعة" و"الموارنة"، وستبقى سوريا (بشار الأسد) تلعب دورا محوريا في لبنان؛ إن لم يكن مباشرا فهي تلعب هذا الدور عبر حلفائها هناك.
الطريق أمامه يبدو طويلا، طريق مليء بالاعتذارات التي كان عليه أن يقدمها إلى كل من أساء إليه. وخلافا لما هو معروف عنه من تكبر فقد أثبت قدرة كبيرة على «التضحية» بكبريائه لإعلاء مصلحة الطائفة.
لا أحد مثله ضمن أمراء الحرب الذين أفرزتهم الحرب الأهلية في لبنان، فهو أكثرهم ذكاء وقدرة على القفز فوق المتناقضات والمشي فوق حبل مشدود، وتقلباته كانت انعكاسا لتقلبات الملفات الداخلية اللبنانية، وللعلاقة غير السوية مع الجارة دمشق.
ولن يكون مفاجئا لأحد إذ ما قام بنقل البندقية إلى الكتف الأخرى، ونقض جميع تحالفاته وعداواته السابقة واللاحقة أيضا.