كتاب عربي 21

مشهد الانتفاضة الفلسطينية القادمة

حسام شاكر
1300x600
1300x600
ما هو الشكل الذي ستأخذه الانتفاضة الفلسطينية المرتقبة، قريبة كانت أم بعيدة؟ 

يمكن رسم ملامح للشكل المفترض من خلال ملاحظة التطوّرات الراهنة، وإدراك المستجدات التي طرأت على الميدان الجماهيري في الضفة الغربية والقدس.

لقد أظهرت الهبّات المتقطعة التي عرفتها الضفة والقدس في الشهور الأخيرة، أنّ التجاوب المناطقي مع نداءات الانتفاضة متفاوت بدرجة ملحوظة ضمن الضفة، وهو ما يمنح انطباعاً تقديرياً عن الشكل الجديد الذي قد تتخذه أي انتفاضة قادمة. فالانتفاضة المرتقبة قد تندلع في بؤر دون أخرى، أو يمكن أن يتمركز ثقلها في تجمّعات سكانية بعينها، ثمّ تتوسّع تدريجياً بشكل جزئي. 

يعني ذلك أنّ ما قد يحدث ليس بالضرورة هو النموذج التقليدي لانتفاضة تشمل رقعة الضفة المشغولة سكانياً، وهو أمر يمكن فهمه بأثر التمزّق الجغرافي وتمايز الخصائص ضمن الجزر السكانية الفلسطينية المبعثرة في بحر الاحتلال.

وتبدو القدس مرشّحة أكثر من أي وقت مضى لأن تحتضن جذوة الانتفاضة المقبلة التي تلهبها ضغوط الاحتلال على المقدسيين، وحملات الاستفزاز ضد المقدّسات، والتنكيل الذي تمارسه العصابات الإسرائيلية، وتبقى القدس خارج نطاق السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، بما يمنح ميدانها خصوصية عن الضفة ويحرِّرها من التزامات السلطة الأمنية، خاصة مع فرص الاحتكاك الجماهيري المباشر مع الاحتلال ومستوطنيه. 

وبنظرة جغرافية صوب الجنوب؛ يتضح أنّ الخليل تمثِّل مجالاً حيوياً للاحتكاك الجماهيري الفلسطيني مع المحتلِّين، رغم أنّ قوات السلطة وأجهزتها تبقى حاضرة في المشهد. وسيُضفي التداخل السكاني الفلسطيني في الخليل مع البؤر الاستيطانية المتطرِّفة، سخونة سريعة على أي هبّة جماهيرية. ومع ذلك؛ فلا يمكن التقليل من خطورة الإجراءات الانتقامية التي قد تعتمدها سلطات الاحتلال وعصابات المستوطنين المسلّحين ضد سكان بلدة الخليل القديمة، التي تحتضر تحت وطأة الظروف المجحفة التي كرّسها اتفاق الخليل لسنة 1997.

ستّتجه الأنظار أيضاً إلى فلسطينيي الداخل المحتل سنة 1948 وقد باتوا أكثر حضوراً في المشهد الجماهيري الفلسطيني. لقد تطوّرت تجاربهم الذاتية، وتفاقمت الظروف الموضوعية المحيطة بهم فزادت من مخزون الاحتقان ضد السلطات الإسرائيلية، كما تلاشت وعود المشاركة السياسية العربية في برلمان الاحتلال فضلاً عن المؤسسات الإسرائيلية ككلّ. 

لقد سبق لفلسطينيي 48 أن خاضوا تجاربهم الجماهيرية التي كان منها هبّة "يوم الأرض" في سنة 1976، والهبّة العارمة في بداية "انتفاضة الأقصى" سنة 2000، وصولاً إلى التطوّر النوعي الذي طرأ منذ بداية صيف 2014 ردّاًً على انتهاكات الاحتلال في القدس وجريمة قتل الفتى محمد أبو خضير. في هذا التطوّر الأخير بالتحديد اتضحت مؤشرات جديدة، تتمثل في الارتباط المتزايد لفلسطينيي 48 بالحدث المقدسي، بما يعني أنّ أي تطوّر تصعيدي بخصوص القدس سيترك أصداءه المباشرة في صفوفهم على الأرجح. والواقع أنّ فلسطينيي 48 طوّروا مع الوقت حالة معايشة وتفاعل مع القدس وحضوراً متواصلاً في المسجد الأقصى، بكلّ ما يعنيه ذلك من دعم معنوي وثقافي واقتصادي للمقدسيين في ظلّ سياسات العزل والحصار والتضييق المفروضة عليهم. كما أنّ اشتعال المواجهات في النقب يكشف عن تحوّلات طرأت في المجتمع الفلسطيني في الجنوب؛ بما فيها التجمّعات البدوية التي تنعتق باطراد من معادلة الاحتواء الإسرائيلية المسلّطة عليها.

تبقى الجامعات والمعاهد العليا في أرجاء الضفة فضاءات قابلة لاحتضان بذور الفعل الجماهيري ورعاية براعمها، رغم تعطيل أدوارها على مدى سنوات عدّة. إنّ الشباب الجامعي الذي يتبنّى رؤى مثالية، ولم ينغمس في الغالب في معادلة التوظيف والإلحاق التي احتوت النخبة الفلسطينية؛ يظلّ أقدر على الخروج بالمفاجآت وتسخين المشهد، مع توظيف الإعلام الاجتماعي في ذلك.

لكنْ الجامعات عليها أن تتعامل مع معضلات، منها التمزّق الجغرافي الذي يعيق وصول الطلبة والطالبات إليها في حالات التصعيد الميداني جراء حواجز الاحتلال، وكذلك هيمنة البرنامج السياسي الرسمي للسلطة الفلسطينية على الحياة الجامعية من خلال مصادرة أدوار الأذرع الطلابية، علاوة على سطوة الأجهزة الأمنية على طلبة الجامعات عبر الاستدعاءات المتكرّرة واختراق النسيج الطلابي بالعيون والآذان. ثم يبقى أن لا تنتهي الهبّة إلى انتفاضة في عالم الشبكات الافتراضي وحسب.

أمّا من الناحية الطبقية؛ فيمكن اعتبار المتضرِّرين المباشرين من الأوضاع القائمة بعد عشرين سنة من نشوء سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال، بمنزلة مخزون لأي فعل انتفاضي، علاوة على أنّ المجتمع الفلسطيني ككلّ متضرر من الاحتلال وسياساته. 

وتبقى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين خزّاناًً للهبّات الجماهيرية، خاصة إن حازت فرص الاحتكاك المباشر مع المحتلين. ولكنّ هذه التجمعات المكتظة باللاجئين ليست مستثناة من سمات الوضع العام القائم في عموم الضفة، وإن كانت أكثر تضرراً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وأقلّ استفادة من امتيازات السلطة. وعلاوة على ما تمّ من تفاعلات؛ فقد تمّ إخضاع بيئة المخيّمات في الضفة والقدس لمؤثرات ضاغطة ضمن مجمل التوجّهات السائدة خلال العقد المنصرم.

يمكن رسم ملامح متوقعة لانتفاضة لا يمكن استبعاد اندلاعها، لكن ما هو مؤكد أنّ الانتفاضات لا تستأذن أحداً، وتبقى قادرة على الدفع بمفاجآتها من حيث لم يحتسب الجميع.
التعليقات (0)