مقابلات

مؤرخ يساري: المغرب تأقلم مع ربيع العرب وبنكيران ناجح

نجيب: المواطن عندما يذوق طعم الحرية من الصعب أن يتراجع عنها - أرشيفية
نجيب: المواطن عندما يذوق طعم الحرية من الصعب أن يتراجع عنها - أرشيفية
توقع أستاذ التاريخ السياسي بجامعة محمد الخامس في الرباط، المعطي منجب، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن تنجح حكومة "الزعيم الإسلامي" عبد الإله بن كيران، أكثر من التجربة السابقة للزعيم اليساري عبد الرحمن اليوسفي، مرجعا ذلك للتغير النسبي الذي وقع بين السلطات الثلاث.

ويسجل الحقوقي الذي عانى من التضييق بمختلف أنواعه في المغرب، أن النظام تأقلم مع واقع سوسيولوجي جديد إبان حراك 2011 وساير ربيع الشعوب بشكل "إيجابي". 

وفي الحوار الثاني ضمن سلسلة حوارات حول "واقع الإصلاح في المغرب"، يؤكد المعطي منجب ذو الميول اليساري العلماني، أن المغرب لم يعد إلى مرحلة ما قبل الربيع، التي قيل إن الدولة خلقت فيها حزبها "الأصالة والمعاصرة" وزورت لصالحه.

 لكن المتحدث رصد ما اعتبرها محاولات لإغلاق قوس الربيع، مشددا على أن تحول المغرب إلى بلد ديمقراطي أصبح حتميا في غضون 10 إلى 20 سنة، وإلا فإن المآل سيكون إلى إسقاط النظام.   

المسؤول عن مركز ابن رشد للدراسات والأبحاث، أكد أن الوضع في الشقيقة مصر "لن يتجاوز خمس سنوات، ولا يمكن لنظام السيسي أن يستمر"، وقال إن المواطن عندما يذوق طعم الحرية من الصعب أن يتراجع عنها، وأجاب عن سؤال "عربي21" حول علاقة العلمانيين بالإسلاميين في صلة بالانتقال الديمقراطي، أنه "لا يمكن أن يكون هناك تغيير إيجابي في المغرب دون (قطب ديمقراطي) يجمع كل القوى ذات الرصيد الشعبي، سواء كانت علمانية أو إسلامية، ليبرالية أو يسارية". 

الكاتب والمحلل السياسي الذي منع له أكثر من كتاب في المغرب، أطّر حديثه في هذا الحوار بالعودة إلى مرحلة تولي العاهل للحكم سنة 1999 وما أعقبها من تطورات، حتى ربيع الشعوب سنة 2011 قبل استشرافي لمستقبل الديقراطية في المغرب. 
 
وفيما يلي نص المقابلة:

كيف تقيم مسار الإصلاح في المغرب اليوم في علاقته بأهداف ما تسميه بربيع الشعوب؟
 
لا بد أن نربط هذا الواقع الموجود اليوم، والواقع الذي خلقه الربيع العربي، بما سمي في المغرب بالعهد الجديد، وأنا لا أسميه كذلك، والذي ابتدأ سنة 1999، وما لاحظناه في كل الأنظمة اللاديمقراطية، ولا أقول هنا إن المغرب دكتاتورية، ولكنه إلى حد الآن نظام لا ديمقراطي، رغم وجود بعض العناصر الديمقراطية فيه، مثل الحريات العامة، والحريات الفردية إلى حد ما، والدور المهم الذي أصبح لرئاسة الحكومة منذ الدستور الجديد، ولكن هذه الأنظمة اللاديمقراطية لا بد أن تصل في النهاية إلى حالة من فقدان القوة، وهذا أمر يحدث في الغالب في مدة بين 8 إلى 10 سنوات، ولذا فهي تلجأ إلى القمع أكثر، وهذه الملاحظة يمكن تسجيلها، رغم عدم وجود نظرية في العلوم السياسية بهذا الصدد، وحالة فقدان القوة في نظام العهد الجديد بدأت سنة 2008، أي بعد تسع سنوات تقريبا من انطلاقه، وكان حينها أول قمع ممنهج لأهداف سياسية بحتة، عن طريق اعتقال قيادة حزب البديل الحضاري، وحزب الأمة، ومعهم شخصية من الحزب الاشتراكي الموحد، وشخصية من حزب العدالة والتنمية، ووزعت عليهم مدد سجنية تراوحت بين المتوسطة والطويلة، وكل هذا كان محسوبا سياسيا، فحزب العدالة والتنمية كان خصما للدولة حينها، ولذا حكم على قياديه بالسجن خمس سنوات، والحزب الاشتراكي الموحد هو من العائلة اليسارية، والمصطفى المعتصم، الأمين العام لحزب البديل الحضاري (حله رئيس الوزراء السابق عباس الفاسي) قال لي إن اعتقاله في الغالب جاء بسبب الدور الذي لعبه في التقارب الإسلامي العلماني، وكانت هناك حركة نشيطة في هذا الاتجاه بين سنتي 2007 و2008، ولكن أرادوا أن يظهروا للطبقة السياسية خصوصا أن النظام لا زال يمكنه أن يضرب ضربة قوية ويتدخل بعنف ضد أولئك الزعماء الذين لا يحترمون التوجه العام للنظام، والذين يريدون أن يخلقوا نفَسا سياسيا معارضا مكونا من كل الاتجاهات وبإمكانه أن يخلخل ميزان القوى لصالح المعارضة، وهذا مطابق لما قلته من فقدان قوة النظام بعد نحو 8 إلى 10 سنوات.

ماذا عن الحديث حول مساعي التحكم السياسي التي تمت في هذه الفترة ما دمت عدت إلى لوراء؟

في هذا الوقت عاد نهج التحكم والسيطرة بقوة، ودليله السياسي أن النظام خلق حزبا له، هو حزب الأصالة والمعاصرة الذي خلق في السنة ذاتها، وجمعت فيه الأعيان وأصحاب المصالح والمتخوفين من قوة الإسلاميين وغيرهم، وبعد سنة واحدة ربح الانتخابات الجماعية بطريقة معتمدة على التزوير القبلي، عن طريق التقطيع الانتخابي وتدخّل الإدارة، وتفكيك بؤر قوة الأحزاب المعارضة، ونتيجة لما وقع في تونس ومصر، كان لا بد للنظام أن يتراجع إلى الوراء قليلا، ويسرّع من عملية الإصلاح التي كان يمكن أن تتأخر أربع أو خمس سنوات أخرى، وحين جاء الربيع العربي كان رد فعل النظام "إيجابيا"، وساير منحى الربيع، من أجل احتوائه، ولم يتصادم معه، وهذا ما ظهر ابتداء من سنة 2012. 

أين نحن اليوم في هذا المسار الذي سردته؟

في البداية كنا ماضين في توجه سلطوي، كان سيصبح فيه النظام أكثر سلطوية، وكان يهيئ حزب الأصالة والمعاصرة ليربح الانتخابات، وأوقف الربيع العربي ذلك، ولكن ابتداء من 2012، وانطلاقا من اللحظة التي اجتمع فيها رئيس الدولة بمسؤولي الأمن، دون إخبار رئيس الحكومة، وتم إيقاف حوالي 130 من رجال الشرطة والجمركيين، تحت مبرر الرشوة، وأراد النظام أن يظهر نفسه في موقع محارب الفساد، واسترجع بذلك كل السلطات التقليدية التي كانت بين يدي الملك إلى بين يدي الملك مجددا، وفي الشهور العشرة التي تلت الانتخابات كان النظام يبحث عن الطريقة المناسبة لتنزيل الدستور الجديد، ولكن بعد ذلك استعاد النظام زمام المبادرة، وتم إعطاء تأويل غير ديمقراطي للدستور، لأنهم كانوا بداية قد اختاروا دستورا فيه نوع من ازدواجية الخطاب، وقابل لكل التأويلات، وفيه كذلك تناقضات، لأنهم ما كانوا يعرفون كيف ستتطور الأمور. ومع تراجع حركة الشارع وانسحاب جماعة العدل الإحسان وجزء من شبيبة العدالة والتنمية، وشبيبات الأحزاب، أدى إلى هذا التأويل غير الديمقراطي.

البعض قال إن انسحابه من حراك 20شباط/ فبراير كان خشية من مواجهة حتمية مع النظام؟

الحراك كانت بداية ضعفه قبل انسحاب جماعة العدل والإحسان، لأنه ليس بإمكان أي حراك اجتماعي الاستمرار لمدة طويلة، إلا إذا كانت هناك أزمة عارمة، وهو أمر غير موجود في المغرب، ومن الصعب إقناع الشارع بالاستمرار، ولذا عادت مياه النظام إلى مجاريها شيئا فشيئا، ولكن مع تعيين حصاد، الذي هو ابن دار "المخزن" على رأس وزارة الداخلية في التعديل الحكومي الأخير، كان قرارا نهائيا لوضع حد للنسخة المغربية من الربيع العربي، خصوصا أن وزارة الداخلية أصبح عليها ضغط كبير من قبل المجتمع، لا سيما في الأقاليم، حيث تراجع خوف الناس من الداخلية، وهو ما وضعها تحت ضغط كبير، اإما اللجوء إلى الأساليب الديمقراطية لحل مشكلات الناس، وإما العودة إلى الأساليب القديمة.

هل عدنا إلى حالة ما قبل الربيع؟

ليس تماما، فالتاريخ لا يعيد نفسه في الغالب، ولكن النظام حاول أن يغلق القوس على كل المظاهر التي يعدّها سلبية في الربيع العربي، مثل زخم الحركية الاجتماعية، والمعارضة، والمطالبة بالحقوق.

ماذا عن سلوك الفاعلين والأحزاب ومسؤولياتهم؟

لأول مرة تخرج حركة بهذه الضخامة، وبهذا الزخم، وذات طابع سياسي قوي، ولا تؤطرها أحزاب أو نقابات، ولأول مرة، المواطن يأخذ حقوقه بين يديه، وربما أحيانا حياته وروحه، كما حدث في تونس ومصر وغيرهما، وفي مواجهة الدولة، رفعت شعارات تواجه النظام وضد الفساد والاستبداد، ورغم أنها كانت شعارات إصلاحية كانت قوية جدا، واستمرت لمدة طويلة، وعلى نطاق حوالي مئة مدينة، وكان صعبا جدا على الدولة تأطير هذا العدد الكبير أمنيا، أما النخب الحزبية فقد انتظرت خطاب التاسع من آذار/ مارس ليكون لديها الموقف الشافي من ربيع الشعوب، وهذا مخز، باستثناء شباب بعض الأحزاب، مثل شباب العدالة والتنمية وشباب الحزب الاشتراكي الموحد، ولكن أغلب الأحزاب كان لديها تخوف من هذا الجديد، الذي هو الشارع، وبعضهم كان متخوفا أكثر من النظام لأن حركة الشارع قد تعني نهايتهم. هذا الأمر كان يعني أيضا تحولا اجتماعيا وقيميا لدى المجتمع المغربي، حيث أصبحت هناك قيم فردية، وأصبح الفرد يؤطر نفسه بنفسه، ويخرج للشارع ليرفع شعارات ضد النظام ، بل وضد الملك، دون أن يطلق عليه الرصاص، ودون أن يكون خائفا على نفسه، وهذا دليل لتأقلم النظام مع الواقع السوسيولوجي الجديد.

إذن هذا الانتقال كان مؤجلا؟

أي نظام بعد مرور نحو عقد من الزمن يصيبه الوهن، ويحتاج إلى دماء جديدة ومشروعية جديدة، هذه المشروعية حصل عليها نظام الحسن الثاني ابتداء من 1992 عندما دخل في مفاوضات مع الكتلة، حتى قبل حكومة التناوب، لأن هذه الأحزاب أصبحت تعمل من داخل النظام ولصالحه، وهم في إطار التفاوض، ونجح النظام في "ابتلاع روح خصومه" كما هو الشأن في الأساطير السحرية، بحيث يأكل من مشروعية خصمه ويوظفه لصالحه، ولكن هذا الأمر لا يستمر إذا لم يكن هناك امتداد للمستقبل. فالنظام أدخل روحا جديدة مع حكومة التناوب، ولكن بعد تآكل هذه الروح اضطر سنة 2011 إلى إدخال روح جديدة بخطاب جديد، ممثلا في حزب العدالة والتنمية، ولكن كذلك سينتهي الأمر ما دام هذا تغيير لا يمس الواقع بقوة ولا يؤثر فيه، لأن الحكومة لا تحكم، والبرلمان لا يشرع، فالمشرّع الأول في المغرب هي الأمانة العامة للحكومة، وهي تابعة للقصر مباشرة، حيث إن 80 بالمئة من القوانين تكتبها الأمانة العامة للحكومة.

يرى المحللون أن تجربة عبد الرحمن اليوسفي أُفشلت، هل ترون أن الأمرذاته يجري اليوم مع حكومة عبد الإله بن كيران؟

قد تنجح أكثر؛ لأن تغييرا ما وقع في العلاقة بين السلطات الثلاث، لصالح المؤسسات المنتخبة، ولكن هذا أمر نسبي جدا، هذا لم يقع في عهد اليوسفي، ولكنه يقع في عهد العدالة والتنمية، نتيجة للظروف الجديدة، ونتيجة لمناخ ربيع الشعوب، ولكن منذنيسان/ إبريل 2014 نتراجع بقوة عن هذا، وخصوصا منذ تعيين محمد حصاد وزيرا للداخلية، ونحن لا نقول هنا إن حصادا رجل قوي، هو بالتأكيد ليس كذلك.

كيف ترى مستقبل الانتقال الديمقراطي في المغرب؟

عندما يذوق الإنسان الحرية، في الغالب لا يتراجع عنها، إلا إذا كان هناك قمع رهيب، والذي أيضا لا يمكن أن يفرض الاستقرار لأكثر من 20 سنة، مثل ما هو معروف في التاريخ السياسي، نموذج بينوتشي في التشيلي، حيث كانت هناك حركة قوية للمجتمع في الستينات وبداية السبعينات من أجل الديمقراطية، لعبت فيها القوى الديمقراطية دورا كبيرا، وأراد بينوتشي أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، واعتمد قمعا رهيبا، لم يقع أبدا مثله في المغرب منذ الاستقلال، ولكن مع ذلك استمر نظامه  16 سنة، لأن المجتمع وصل إلى درجة عالية من إرادة الاستقلال عن الدولة والحرية والعدالة، وليس بالإمكان إيقاف زحف الربيع.

ماذا عن الحالة المصرية؟

تقديري أن الوضع لن يتجاوز خمس سنوات، ولا يمكن لنظام السيسي أن يستمر، ونظام بينوتشي كان أقوى من نظامه، ومارس قمعا أكبر، وبالعودة إلى المغرب أعتقد أننا سنكون أمام نظام ديمقراطي في فترة تتراوح بين 10 سنوات و20 سنة، ولا أدري هل سيكون ذلك عبر "المساء الكبير" أي التغيير في يوم واحد، أو عبر تغيير تدريجي، أو عبر ربيع شعبي جديد، ولكن الأفق هو الديمقراطية، أو أن النظام سيسقط.

ماذا عن القوى الموجودة اليوم خارج مسار التحول، هل يمكن أن يحدث الانتقال دون أن تكون هذه القوى في قلب المشاركة السياسية؟

لا يمكن أن يحدث انتقال دون مشاركة هؤلاء، لأنهم يمثلون جزءا كبيرا من المجتمع المدني بالمعنى العام، وبالنسبة للعدل والإحسان، خصوصا في الأحياء الفقيرة والمهمشة، وعبر بعض التنظيمات التقليدية، بما فيها العائلة والشارع.

ماذا عن العلاقة بين القوى الإسلامية والعلمانية وأثرها في التحول الديمقراطي؟
 
لا يمكن أن يكون هناك تغيير إيجابي في المغرب، سواء عبر حركية الشارع أو عبر حركية اجتماعية هادئة وممتدة في الزمان دون ما يمكن أن يسمى "قطبا ديمقراطيا" يجمع كل القوى ذات الرصيد الشعبي، سواء كانت علمانية أو إسلامية، ليبرالية أو يسارية، إلى آخره، وهذا أيضا يفرضه المجتمع، لأنه إبان حراك 20شباط/ فبراير بدا أن الناس يتظاهرون جنبا إلى جنب مهما كان توجههم الإيديولوجي، والنظام يحاول ما أمكن أن يوجه ضرباته لأي تقارب مهما كان، حتى أنه عندما كان الجو ملتهبا بعد 2011، أخرج النظام المدعو "أبو النعيم"، وهو نكرة، ومرروه كان لعدة دقائق في التلفزة الرسمية، رغم أنه ينادي أحيانا بالتصفية الجسدية للعلمانيين، بينما التلفزة تقريبا ممنوعة على المعتدلين وعلى الذين لديهم خطاب إنساني وغير عنيف، وكيف أن التلفزة التي لم تكن تفتح في وجه مصطفى الرميد تفتح الآن في وجه أبي النعيم، وجعلوا منه نجما، وحزب البديل الحضاري اعتبر خصما لدودا للنظام، رغم أنه ليس بالتنظيم القوي أو الكبير، لأنه مثل صلة وصل بين الإسلاميين والعلمانيين، لأنه حزب، إلى حد ما، ليبرالي وديمقراطي في الوقت نفسه الذي هو حزب إسلامي، لذا كانوا سيكونون قنطرة للتقارب، ولذا كما هو معروف، قبل 48 ساعة من سجنهم، اتصل بهم أحد الأشخاص وطلب منهم الانضمام لحزب الأصالة والمعاصرة.

النظام المغربي التقليدي يعتمد على انقسامية المجتمع لتبقى لديه اليد الطولى في القرار، وفي السيطرة والهيمنة، ولهذا فإنه يتخوف من أي تقارب يجمع أقطابا متعارضة إيديولوجيا أو مصلحيا، تتوحد أو تتحالف، حتى ولو كان ذلك بشكل مؤقت.
التعليقات (0)