تقف البلاد على أبواب استحقاقين انتخابيين حاسمين من حيث التأهل لإرساء نظام ديموقراطي يقوم على مبدأ التداول السلمي على السلطة بما يرشح بلادنا لتسجيل سابقة في منطقة مازالت دولها تستعصي على الحكم الرشيد.
الجديد في هذه الانتخابات مقارنة بانتخابات المجلس التأسيسي 23 اكتوبر 2011 هو عودة العائلة
الدستورية وهي إحدى العائلات السياسية التاريخية الكبرى التي أنتجها الاجتماع السياسي
التونسي إلى جانب العائلة الإسلامية والعائلة اليسارية الليبرالية.
لئن تعرضت العائلتان الأخيرتان إلى صنوف من الابتلاء والمحن والاضطهاد على يد الدولة الحديثة فإن ثورة الحرية والكرامة كشفت أن محنة العائلة الأولى لم تكن تكاليفها أقل.
فقد حولت دولة الإطلاق الحزب الذي حمل أشواق التونسيين في التحرر من الاستعمار وطموحهم في بناء دولة عصرية وتحقيق تنمية عادلة إلى مجرد رديف وداعم لاستبدادها؛ حتى أصبح في أواخر أيام المخلوع أداة هامشية في يد مجموعة صغيرة من النهابين.
توفر هذه الانتخابات إذن فرصة تاريخية للعائلة الدستورية لاستعادة مكانتها - وليس مكانها فالتاريخ لا يعود الى الوراء- السياسية والتصالح مع المجتمع الذي عصف خلال ثورته بآخر تنويعاتها التجمع الدستوري الديموقراطي.
توفرت هذه الفرصة لأسباب ثلاثة أولها هو روح التسامح التي سادت الحراك الثوري وتمظهرت في غياب عمليات الثأر والانتقام، وحتى موضوع المحاسبة الذي تطالب به جموع المقهورين نجح التونسيون في تصريفه عبر أكثر الآليات حضارية وهي العدالة الانتقالية التي يتفق الجميع على أن تجري في أفق المصالحة الوطنية الشاملة، ورغبة ضحايا الاستبداد أو الجزء الأكبر منهم على الأقل في منع تكرار مآسي الماضي، وتبادل الأدوار في السجن والمنفى والحرمان من الوظيفة العمومية والرزق عموما، بين الجلاد والضحية.
ثانيها هو الرصيد التاريخي الذي تتمتع به هذه العائلة السياسية والمستمد من بلائها في مقاومة الاستعمار واجتهاد رجالاتها في بناء دولة وطنية عصرية ذات أسس صالحة مثل إعلاء شأن التعليم وإطلاق طاقات النساء وتحييد مؤسسات القوة وتمدين السكان رغم فشلها في استيعاب المخالف واعتمادها على العنف سبيلا للاستقرار السياسي.
السبب الثالث هو وفاء الطرف السياسي الأكبر الذي أفرزته الثورة ممثلا في النهضة لتراثها الفكري والسياسي في رفض الإقصاء وإعلاء قيمة الحرية والايمان بالنظام الديموقراطي ورفض العنف سبيلا للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها. وعدم المزايدة على الثورة بالمضي في محاكمات وتصفيات امتنعت عنها جموع الناس عندما كانوا يحتلون الشوارع والدولة طريحة، وتعالي النهضويين وخاصة قيادتهم السياسية عن الثارات والأحقاد ما جعلهم يرفعون القيود عن الترشح والانتخاب سواء تعلق الأمر بسن المرشحين للانتخابات الرئاسية أو برفض الإقصاء والعزل فيما تعلق بالانتخابات البرلمانية.
أمام هذه الفرصة التاريخية تنقسم النخب الدستورية إلى فريقين؛ فريق يخيل إليه أنه يمكن اغتنامها لافتكاك السلطة من جديد ويرى في بعض الامتعاض الذي يبديه الناس من بطء عملية الإصلاح والتقدم في الوفاء بمطالب الثورة وتحقيق الوعود الانتخابية رغبة في العودة إلى الماضي القريب وإعادة انتاج دولة الاستبداد والفساد.
ويتجلى ذلك خاصة في الخطاب الذي تصدره بعض الزعامات الدستورية، أو الشخصيات التي تحاول اليوم التلون بألوان دستورية وبعض المرشحين للرئاسة من محاولة تلميع وإعادة الاعتبار لعهد قام على الفساد والظلم والقهر والنهب وحتى لرئيسه المخلوع الهارب من غضبة شعبه.
ويصل الأمر بهؤلاء إلى رفع شعارات الانتقام والإقصاء واحتقار المخالف وبخس إنجازاته وتضخيم الهنات في خطاب عنصري مقيت وصل إلى تصريح أحد الموتورين بأن دماء التونسيين ليست سواء فبعضها - أي هم-أحمر ودماء المخالفين لهم سوداء تستأهل السفك.
الفريق الثاني قد يهديه إخلاصه للبلاد وللوطن إلى وعي دقيق بالمرحلة ومقتضياتها يدفعه إلى الاعتذار عن تورطه في دولة الاستبداد والتقييم الصحيح لتلك الفترة الكالحة من تاريخ بلادنا باعتبارها قوسا رديئا يجب نسيانه بعد أن أغلق والتفاعل الايجابي مع روح المصالحة والتسامي على الجراح وعلى مخلفات الماضي والإرادة الصادقة للاندراج في الحراك السياسي الديموقراطي الذي أنتجته ثورة الشعب والاستعداد لخدمة البلاد في أجواء تسودها روح التوافق والوحدة الوطنية والتسليم لمن يختاره الشعب والاستعداد لعملية التداول على الحكم التي أطلقتها الثورة.
رأينا وتوسمنا أن جموع الدستوريين الذين حررتهم الثورة فيمن حررت من التونسيين وزادت أن حررت ذواتهم وكسبهم من الالتصاق باسوأ ما أنتجته هذه البلاد من حكام خلال تاريخها المديد، في مختلف أنحاء البلاد يميلون بحسهم الوطني وبقدرتهم على جس نبض الشعب إلى الفريق الثاني ويستوي في ذلك الذين بقوا على الحياد أو التحقوا بأحزاب أخرى أو ساهموا في تأسيس الأحزاب الدستورية الجديدة.
هؤلاء أقدر على التعرف على من يخدم هذه البلاد بإخلاص ممن يسعى لتسخيرها مرة أخرى، يعلمون من الذي أرسى وعزز قيم التسامح في البلاد وأعاد الاعتبار للقانون وأعلى من شأن المصالحة الوطنية ودعا إلى التوافق وجسده وغادر الحكم حفظا لاستقرار التونسيين وحقنا لدمائهم. يعلمون أن محاولة جرّ الدساترة باسم "التصويت الايجابي" لجبهات سياسية أنبنت على التنكيل بهم والدعوة إلى اجتثاثهم خيار خاطئ، وسيعطل المصالحة بين التونسيين، ويفتح الباب للمزيد من الثارات والأحقاد.
فهل يرجح هؤلاء الكفة ويضربون موعدا مع التاريخ، أم تضيع الفرصة ويستأنف قطار الأحقاد مسيرته؟.