لم يكن سقوط بن علي ومن بعده مبارك ليخلو من السحر الآخذ بالألباب، كانت تلك اللحظات فاصلة فعلاً، وهي في معناها التاريخي الضخم تملك الطاقة الهائلة التي تخدّر الوعي وتطيش بالعقول، ولأني في تلك اللحظات كنت معزولاً عن العالم في سجني لا أملك إلا الصحف اليومية وجهاز راديو ترانزستور بلا تلفزيون ولا إنترنت ولا نقاشات فإنني كنت أملك الوقت الكافي للتأمل الذي يتجاوز سحر اللحظة إلى موقعها في حركة التاريخ الكبرى التي تبدو فيها هذه اللحظة تفصيلاً صغيرًا، فنهر التاريخ وبسرعته القاهرة سيتجاوزها متدفقًا بأحداث لم تكن متصورة من قبل، وستتسع وتدور حركة هذا النهر لتستوعب الجغرافيا العربية كلها بما هي جغرافيا مركزية في قلب العالم تتداخل فيها خطوط الصراع، وبما هي جغرافيا مركزية في قلب التدافع الحضاري كما كانت أبدًا، وكما اتخذت موقعًا ذاتيًا
متمايزًا في هذا التدافع منذ خمسة عشر قرنًا، وبما هي جغرافيا تواجه الكونية الغربية في تجليها الأبشع "إسرائيل".
ومع أن السحر تبدد في الواقع مع الاستعصاء الليبي الذي بدا متفجرًا منذ لحظاته الأولى، ومع استغلاق الحالة اليمنية وقتها، ومع طرقات الحركة التاريخية الكبرى على أبواب دمشق بما أنذر بتغير التحالفات والمواقع وتبدل الصور المألوفة ودخول أطراف جديدة والبدء بصراع دموي قاسي ومدمر، ومع أن هذا التمدد السريع والواسع لهذه الحركة أعطى الوقائع في البلدان المتعددة مواقعها داخل سياق واحد، فإن السحر لم يخرج من بعض العقول التي خفّ وطاش بها، واعتقدت أن قرونًا من الإنهاك والتمزق والبحث عن سبيل للخلاص، وفي منطقة كمنطقتنا، ستنتهي بسقوط الرئيس وانفتاح المجالات للتنافس السياسي على السلطة وتمتع الحركة الإسلامية بالحرية التي افتقدتها لعقود، فانحصر النقاش داخل الحدود الوطنية معزولاً عن السياق الحقيقي الذي تدور فيه الأحداث، واقتصر على نقاشات حامية ولكنها حالمة حول آليات إدارة المرحلة الانتقالية والتشارك في أعبائها وتوزيع السلطة أثناءها، ولأجل ذلك سمى بعضهم ما حصل بـ "الربيع العربي"، لأنه تعامل مع المشكلة وكأنها متجسدة في شخص المخلوع، ثم انحطت النقاشات بعد ذلك وهي ترى الإشكال والاستعصاء في عجز بعض القوى الفاعلة، عن إنجاز التوافق والشراكة، وهو الأمر الذي يعني أن الجميع كان عاجزًا عن إدراك التحولات في أبعادها المتعددة محليًا وتاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا، فإذا كان الإسلاميون قد اعتقدوا أن الفرصة قد جاءت وأمكن التقاطها نهائيًا، فإن بعضًا من خصومهم اعتقدوا أن المشكلة في الإسلاميين وحسب!
وكان من قدر الله، أن يُقتل الشيخ أسامة بن لادن، رحمه الله، في غمرة السحر وما نجم عنه من خدر وآمال هاذية، حتى جزم الجميع أن القاعدة قُتلت ودُفنت مع سقوط بن علي لا مع مقتل بن لادن، وأن العنف انتهى إلى الأبد وعلى مستوى البشرية مع نجاح "الثورة السلمية" في تونس ومصر، وحيث سيصبح العرب، وأخيرًا، نموذجًا كونيًا ملهمًا بـ "ثوراتهم السلمية"، وأعيد في لحظات السكر تلك تعريف الثورة بجعلها سلمية حصرًا، وهكذا وضع ساسة العرب الجدد ومثقفوهم الحجر الأخير على قبر العنف والقاعدة واستمروا سكارى يتحدثون عن "الربيع العربي".
والحق أن تلك اللحظات الأولى كانت حالة عامة انبثقت عنها نقاشات تافهة، ومحاولات ذاهلة، ولكن ورغم ذلك كان لا بد من حصول تلك النقاشات والمحاولات، لأن الكشف عن قصور الوعي واستنفاد المحاولات إحدى أهم سمات مراحل التحول الكبرى وشروط الدخول الصحيح إلى المراحل القادمة، فنحن لم نكن نعرف أنفسنا فكيف لنا أن نعرف محيطنا والعالم؟! كان لا بد لنا أن نعرف كل ما فينا، وما كنا لنصل إلى المعرفة بأسوأ ما فينا وبالصدمة التي تملك الطاقة على تجديد الوعي إلا بالعبور من أوهامنا وتصوراتنا الرومانسية عن أنفسنا ومجتمعاتنا!
ولم يكن العجز عن إدراك اللحظة سمة الفاعلين الأساسيين من القوى الصاعدة أو الجديدة البارزة وحسب، بل وأيضًا سمة المثقفين المعقبين على الأحداث، والذين عجزوا في كل شيء، في توقع الثورة، وفي توقع مآلاتها وخط سيرها، وفي سبر أغوار الأحداث، وقد حجبهم عن ذلك كله انحيازاتهم المسبقة إن لم تكن أيديولوجية وسياسية، وتصورات ناجزة، فإلى ذواتهم النرجسية، فاستغرقتهم النقاشات التافهة فترة، بدلاً من محاولة نظم الأحداث وفهم السياق وأخذ الحركة التاريخية التي لا تعني إلا توقع الأعنف، والتي تنفتح على احتمالات شديدة الاتساع والقسوة في الصراع.
وثبت لاحقًا أن العنف لم يُقبر، وأن القاعدة التي لم تمت بدورها قد انقسم عنها تعبير أكثر عنفًا وفتكًا وقدرة على الإلهام والجذب والتوسع وتمدد على أرض عربية تساوي في مساحتها مساحة بريطانيا، واستقطبت الآلاف من كل البلدان بما فيها تلك الحداثية والأبعد ما يكون عن السلفية الإسلامية، وأما ما اعتبر نموذجًا نهائيًا في حينه (أي الثورة السلمية) فلم يكن أكثر من مفتاح لباب الحركة التاريخية الكبرى نحو العنف والفوضى الواسعين والتداخلات الإقليمية والدولية كبيرة الحجم وشديدة التعقيد.
وها هي اليوم تدخل الثورة اليمنية التي كان يحب بعض مشاهيرها تسميتها بـ "الثورة الشبابية" مرحلة جديدة مع احتلال الحوثيين
صنعاء، لينتهي بذلك النموذج الذي ادعاه بعضنا تجليًا للحكمة اليمانية، ويتعزز التحاق اليمن بالمشهد العربي الكبير في انسجام طبيعي مع حقائق اليمن والمنطقة والمرحلة التاريخية والنهر الكبير الذي اندفقت فيه هذه المرحلة.
وما أن حصل الاحتلال الحوثي لصنعاء حتى بدأ بعضنا بالرثاء، بينما اشتغل بعض آخر بالاحتفال، وكأن نهر التاريخ قد كفّ عن جريانه، وكأن المنطقة استقرت على توزيع نهائي للنفوذ، بينما طبيعة الحركة التاريخية التي بدأت بسقوط بن علي ومداها الجغرافي وتحدياتها الزمانية والغموض الذي يلف العالم ينبئ عن تحولات كبرى ستجعل كل ما يجري تفاصيل كما جعلت ما قبله تفاصيل يتجاوزها الزمن، فما جرى ويجري ضخم ومهم في كونه جدليات صراعية لا بد منها لخلق الحلول التارخية، لكنه تفصيل من حيث تجاوز الزمن له واستمرار التاريخ في بناء جدلياته على طريق صعود الأمة وإنهاء الكونية الغربية بالقضاء على "إسرائيل".
وهذه الحركة على هذه الطريق، وبعد أن كسرت باب الجمود الذي طال لعقود، ستأخذ مداها، وهي في ذلك لا بد وأن تفيض بكل هذا العنف والفوضى والقسوة والوجع، وهي لا بد وأن تكون أكبر من كل الجماعات والأحزاب والأفراد، بحيث لا يهم أي منها وإنما الذي يهم هو اتخاذ الموقع الصحيح في هذا النهر الكاسح الذي يندثر فيه فاعلون سابقون ويتجدد آخرون ويتخلّق غيرهم، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".