منذ قبول رئيس الوزراء
الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" بالمقترحات المصرية بشأن التوقيع على اتفاق
وقف النار بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة
حماس، اتسعت دائرة الخلافات داخل الحكومة، على نحوٍ أكبر مما كانت سائدة خلال أيام العدوان، في شأن كيفية إدارته وسبل إنجاحه، لتمتد إلى إشكالات ما بعد العدوان، وخاصة تلك التي اضطرت إسرائيل بموجب نصوص الاتفاق، إلى الجلوس للتفاوض حول قضايا صعبة، تسبب "نتانياهو" وحده في الإتيان بها بعد أن كانت إسرائيل بعيدة عنها.
هذه الإشكالات، أسست لتحذيرات متلاحقة، بشأن إمكانية حدوث انقلاب كبير يدمر الائتلاف الحكومي باعتبار الاتفاق، الذي جلبه لهم فجأة، بحجة أن تم تكليفه باتخاذ القرارات مسبقاً، أدّى إلى عدم رضاهم بالمطلق، كونه لا يرقى إلى الطموحات الإسرائيلية، لا تكتيكياّ بخصوص جلب الهدوء، ولا استراتيجياً بمحو المقاومة أو بتحطيم قدراتها العسكرية على الأقل، وأن سياسته العاجزة، وعدم قدرته قيادة الحملة العدوانية بشكلٍ سليم، وتفرّده باتخاذ قرارات مصيرية من هذا النوع، كانت كلّها أسباباً مباشرة ساهمت في انحداره دفعةٍ واحدةً إلى خطوة التوقيع، التي شكّلت ضربة قوية لدولة إسرائيل.
ربما استطاع "نتانياهو" الصمود في مواجهة الكل داخل الحكومة أو خارجها، وإن لوقتٍ قصير، لكنه لم يجد أمامه إلاّ المُسارعة إلى استبدال سياسته التقليدية، بسياسة أخرى طارئة، بهدف الحد من اللوم القاسي، والنجاة من خسران مقيم، فيوماً بعد يوم، توالت قصصه أمام حكومته بإنجازات العدوان ومكتسباته، وأقلّها بأن حماس تلقت الضربة الإسرائيلية الأسوأ والأقسى منذ تأسيسها، وتتابعت تفسيراته لبنود الاتفاق، بأنه حال دون تحقيقها لأي من مطالبها، وتجددت تحذيراته، بالعودة إلى الحرب ضد حماس والمقاومة ككل، بالإشارة إلى أن جيشه ما يزال قادراً على القتال، في حال لم تستجب لمطلب نزع سلاحها، أو في حال غياب خضوعها لأيّة حلول دبلوماسية تكون واسعة ومُريحة أكثر لإسرائيل، وكان واضحاً أن دعمت تلك التحذيرات أدلة، على أنه ماضٍ في تحضيرات عملية من شأنها أن تسند الإنجازات الإسرائيلية المزعومة، وأن تُحبط بالمقابل أيّة مساعٍ فلسطينية سياسية كانت أو عسكرية ضد إسرائيل.
لقد باتت النوايا السيئة تسيطر على نهج "نتانياهو" الجديد، وأطلق جماحها على مدى الأيام الفائتة والتي تسبق بقليل تلك المدة المقررة، التي ينبغي أن تنعقد خلالها المفاوضات بخصوص إيجاد الحلول للقضايا (المطار، الميناء، إطلاق سراح صفقة وفاء الأحرار) وغيرها، والتي تم تأجيل التفاوض بشأنها إلى شهرٍ واحد، وهو يقصد بذلك ليس إرضاءً لأعضاء حكومته وحسب، بل إلى توتير الأجواء الحالية على الساحتين المصرية والفلسطينية في آنٍ معاً، طمعاً في تكوين عوامل تؤدّي إلى مكاسب سياسية آنيّة واستراتيجية مستقبلية وهي الأهم.
لدى بعض وزرائه ومن هم أكثر تشدداً ( أفيغدور ليبرمان، نفتالي بينت، يوفال شنايتس)، وزير الخارجية، وزير الاقتصاد، وزير الشؤون الاستراتيجية على التوالي، لا يعني نهجه هذا لديهم، مقنعاً أو مُرضياً، باعتباره جاء للترويح عن النفس وحسب، قبل التراجع عن الاتفاق مع حماس، والتخلي عن كل ما نتج عنه رسمياً، بحجة أن إسرائيل نفّذت في أوقات سابقة نوايا حسنة باتجاه الفلسطينيين سواء بشأن تيسير حياتهم المعيشية أو بخلق الهدوء والاستقرار اتجاههم، وهم يعودون وسيعودون في كل مرة إلى معاداة إسرائيل وتشويش حياتها.
على مدار الحملة العدوانية – الجرف الصامد- حاول نتانياهو" ووزير جيشه "موشيه يعالون" ورئيس أركانه "بيني غانتس"، تسجيل نقاط عسكرية وسياسية أكبر خلالها، بالاستناد مواقف دولية وإقليمية مؤيدة، إلى جانب اعتمادهم قوة عدوانية أكثر من مُفرطة، التي تم اتخاذها كذريعة لاستعادة الهدوء ولتدعيم فكرة الردع الإسرائيلي، بحيث تنسجم مع الأهداف والاستراتيجيات الإسرائيلية لوأد المقاومة الفلسطينية، وللهيمنة على الشعب الفلسطيني ومقدراته بشكلٍ عام، لكن شعورهم بأنهم فشلوا في إدارة الحملة وكسب الحرب، وشعورهم أيضاً بعدم القدرة على توصيل إجابات مقنعة لأولئك الرافضين لسياستهم، فيما إذا تحققت نجاحات، هو الشعور نفسه الذي يقودهم الآن إلى التهرب من إجراء مفاوضات قادمة، والتحلل من وعود سابقة كان تم تقديمها للقاهرة على الأقل، إلاّ في حال ضمنوا تلقيهم لأضعافٍ مضاعفة مما سوف يستطيعون تأديته، أو ما يستطيعون استرجاعه فيما بعد.
وكان "نتانياهو" قد ألمح في كل مناسبة، أنه ليس بصدد الحرص على إجراء مفاوضات جادّة، وأعلن أكثر من مرّة، بأن من السابق لأوانه الموافقة على تهدئة طويلة الأمد مع حماس أو غيرها، بمعنى أن موافقته على الاتفاق منذ البداية، لا تعني ارتباطه بأيّة مفاوضات إضافية، إلاّ في حال كانت متماشية مع الاشتراطات الإسرائيلية السياسية والأمنية، علاوة على دوامه بالتذكير بأن إسرائيل جاهزة للرد بعنف أشد من ذي قبل، على أيّة صواريخ تطلق من القطاع بعد الهدنة التي تم الاتفاق عليها.
دلائل ومؤشرات تؤكد أن "نتانياهو" بدأ يراوغ في شأن جديّته في شأن المفاوضات، وهو سيحاول فقط، فيما تبقى له من زمن وهو على رأس الحكومة، أن تكون له بصمته الخاصة في السياسة العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وحركات المقاومة على نحوٍ خاص، التي بقيت على الدوام تؤرّق مضجعه على اختلاف ألوانها.
على أية حال، فإن ما صدر عنه من إعلانات وتصريحات مختلفة، وسواء كانت بنيّة تنكّرهُ لما تم الاتفاق عليه، أو تبريراً لمماطلته في الانقياد إلى تكملة المفاوضات، أو ما يُصدره عن عمد بالذهاب نحو تسخين قضايا أخرى، كالممارسات الممنهجة ضد الضفة الغربية، أو بشأن تنفيذ سياسات خارقة ضد مدينة القدس، أو بمفاقمة العمليات الاستيطانية، وبوتيرة أسرع، سيما وأن جميعها شهدت نشاطات وتغيرات مؤلمة، اغتنمتها إسرائيل منذ الساعات الأولى من تفجر الأوضاع في الضفة الغربية في أعقاب عملية اختطاف المستوطنين الثلاثة، ولاحقاً على مدى أيام العدوان ضد حركات المقاومة داخل القطاع، فكلّها مجتمعة ومنفردة، تعتبر بمثابة وسائل جيدة يعتمدها "نتانياهو" للتراجع ليس عن الوعود التي قدمها لوقف النار، بل عن الاتفاق ككل.
بلا شك والأمر كذلك، فإنه يستدعي من الكل الفلسطيني، ساسة ووطنيين ومقاومة على نحوٍ خاص، ضرورة تكثيف الحرص والحذر اللازمين في مثل هذه الحالة، وحريٌ بهم كذلك، الاتجاه، ليس في شأن اتخاذ خطوات سياسية لائقة وحسب، بسبب أنها ليست كافية ولا تفي بالمأمول، بل جنباً إلى جنب مع إجراءات عمليّة تكون أكثر ملائمة وأعظم إيلاماً، لتحقيق هدف ردع "نتانياهو" وحكومته ابتداءً، ووصولاً إلى ردع إسرائيل برمّتها مرّةً أخرى.
خانيونس/ فلسطين
30 آب/ أغسطس 2014