مقالات مختارة

فتح وحماس: والاحتراق التلقائي

ديفيد هيرست
1300x600
1300x600
لم تكد تنشر صور حكومة الوحدة الفلسطينية حتى نشبت المشادات والمشاجرات حول مراكز الصرف الآلي في غزة بين موظفي الحكومة التابعين لحماس من جهة والتابعين لفتح من جهة أخرى. وكانت السلطة الفلسطينية قد وافقت بموجب اتفاقية المصالحة أن تدفع رواتب جميع موظفي القطاع العام، أولئك الذين ينتسبون لفتح في غزة والذين يتلقون أجورهم مقابل البقاء في بيوتهم وأولئك الذي ينتسبون لحماس والذين وظفوا ليشغلوا الوظائف التي استنكف عن أدائها الفتحاويون. 

لأكثر من عام وموظفو الحكومة التابعون لحماس لا يتقاضون سوى نصف الراتب أو أقل من النصف، وذلك بعد أن جفت موارد التمويل الإيراني، ناهيك عن توقف الدخل الذي كانت تتقاضاه الحكومة من الضرائب المستوفاة على البضائع التي كانت تمر عبر ما يزيد عن 1300 نفق دمرها الجيش المصري بعد الانقلاب. ولذلك، حينما أعلن عن تشكيل حكومة الوحدة ظن خمسون ألفاً من الغزيين بأن يوم قبض الراتب قد حل. 

إلا أن ذلك اليوم لم يأت. إذ ادعت رام الله بأن موظفي حماس غير مسجلين لديها بوصفهم موظفي حكومة، فردت حماس غاضبة على ذلك بمنع منتسبي فتح من صرف رواتبهم في غزة، ولم يتسن حل النزاع إلا حينما تدخلت قطر وتكفلت بدفع رواتب الموظفين المنتسبين إلى حماس. 

وما أن تم إطفاء حريق حتى نشب حريق آخر، وذلك حينما اعتقلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية ستة عشر من نشطاء حماس في الضفة الغربية، وفي تصريح لوكالة الأناضول قال عدنان الضميري، المتحدث باسم جهاز أمن السلطة، إنه لم يقع اعتقال أحد على خلفيات سياسية، بما يعني أن الذين اعتقلوا إنما كانوا مجرمين عاديين محترمين، كما كان يعبر عنه في إيرلاندا الشمالية. طبعاً، لا ترى حماس الأمر على هذه الصورة. 

بعد مضي خمسة أيام فقط على تشكيلها، تجلت بوضوح نوايا محمود عباس الحقيقية من حكومة الوحدة، فالأمر لا يقتصر على الرواتب والاعتقالات، إذ احتفظ محمود عباس قريباً جداً منه برجلين اعترضت حماس بقوة على بقائهما: رياض المالكي كوزير للخارجية ومحمود الهباش، الذي صرف النظر عن تعيينه وزيراً للشؤون الدينية ولكنه عاد ثانية كأعلى سلطة دينية على الإطلاق في منصب قاضي القضاة الذي يملك سلطة إصدار الفتاوى. 

إذاً، لماذا كان خالد مشعل، زعيم حركة حماس، يتحدث عن عباس بأسلوب غاية في الدبلوماسية حينما قابلته مؤخراً؟ ولماذا كان مشعل حريصاً على إيصال رسالة مفادها أن الفلسطينيين سيتمكنون من تحدي الاحتلال فقط إذا حافظوا على وحدتهم؟

أحد التفسيرات أن مشعل يعتقد ذلك بصدق، وأما التفسير الآخر فهو أن حماس وفتح تلعبان في الوقت الضائع. هذان الرأيان ليسا متناقضين كما قد يبدو للوهلة الأولى. 

يقول بعض الناس بأن عباس يستخدم المصالحة فقط كوسيلة ضغط يرجو من خلالها انتزاع تنازلات من الإسرائيليين وبأنه لا ينوي تطبيق الاتفاقية على أرض الواقع. ويقولون بأن حماس، على الأقل في غزة، لم يعد لديها نقود وتحتاج إلى وقت للتعافي، ونظراً لأن الثقة بين المعسكرين معدومة تماماً فإن صفقة المصالحة هذه سرعان ما ستؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها: سوف يسدل الستار عليها من خلال رمية من الصواريخ. 

أعتقد شخصياً بأن خالد مشعل صادق في اعتقاده بأن الوحدة الفلسطينية ضرورة استراتيجية، ولا أدل على ذلك من أن سجله يؤكد تمسكه بهذه السياسة. فكما يقول في مقابلته معي: المصالحة ليست سياسة جديدة بالنسبة لحماس. لقد جربت في أربع مناسبات من قبل، وفي كل مرة إن لم يكن عباس هو المبادر بإعاقتها فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي كانت تقوم بذلك. فاتفاقية الدوحة وقعت حينما كان وضع حماس الدولي أفضل بكثير مما هو عليه اليوم. في السابع من فبراير 2012 كانت حماس على وشك مغادرة دمشق ولكن الربيع العربي كان ما يزال في أوجه، وكانت حماس ماتزال تحتفظ بجوار متعاطف معها في مصر التي كانت على وشك انتخاب محمد مرسي، وكان معبر رفح الحدودي (نسبياً) متيسر العبور. رغم كل هذه الميزات لصالح حماس، فقد وقع مشعل اتفاقاً سمح لعباس بشغل منصب رئيس وزراء حكومة وحدة وطنية. لم يرق مثل هذا التنازل للبعض داخل حماس ولكن مشعل مضى فيه قدماً. 

ولك أن تعود إلى ما جرى عام 2007 حينما لجأت حماس إلى الحسم العسكري وأطاحت بسلطة فتح في قطاع غزة، حينها لم ترتح قيادة حماس الخارجية في دمشق لما جرى، إذ أدرك مشعل وقتها المخاطر التي كانت ستنجم عن ذلك الانقسام، وحاول بلا طائل - وبطلب من عباس نفسه - التدخل للحيلولة دون ما آلت إليه الأمور. وصل الأمر بقيادة حماس في داخل غزة في وقت ما أن فصلت خطوط الهاتف، وحينما وقعت الواقعة وانتهى الأمر عقد اجتماع شهد نقاشاً عاصفاً دافعت قيادة حماس في غزة عما أقدمت عليه محتجة بأنه لم يعد أمامها خيار آخر لأن قوة “الأمن الوقائي” التي كان يرأسها دحلان كانت تعد لانقلاب استباقي. ولذلك، فإن بإمكان مشعل اليوم الإصرار على أن مواقفه تجاه الانقسام كانت دوماً متناغمة وثابتة. 

ومع ذلك، فنحن لسنا أمام صفقة منصفة، فالحكومة من المفروض أن تتشكل من تكنوقراط، وهناك تكنوقراط موالين لفتح وآخرون موالون لحماس، إلا أن أحداً من الوزراء لم تسمه حماس. في نفس الوقت ما تزال سجون السلطة في الضفة الغربية تؤوي نزلاء من حماس كما أن الجمعيات الخيرية التابعة لحماس ماتزال مغلقة، والأدهى من ذلك أن عباس تعهد بإبقاء الأمور كما هي على هذه الشاكلة، وهذا بالضبط ما يقصد بالتعاون الأمني مع إسرائيل، وهذا الأسبوع أكد محمود عباس أنه ينوي الاستمرار فيه. 

يدرك مشعل كل ذلك بشكل جيد، فلماذا إذن يقول بأن حكومة الوحدة الوطنية تشكل الأرضية التي يمكن للطرفين أن يبنيا عليها؟ فبعد أسبوع واحد ثبت بالدليل القطعي أن حكومة الوحدة تعني لمحمود عباس حكومته هو. 

لعل هذا بالضبط ما تريده حماس، على كل حال. فقد أثبتت الحكومة أنها عبء ثقيل وغير مرغوب فيه من قبل حماس في غزة. ففي ظروف الحصار تعتبر الحكومة سبباً في فقدان الشعبية ونزف الأصوات الانتخابية، وقد تكون حسبة مشعل أن السماح للسلطة الفلسطينية بتولي مسؤوليات الحكومة سيمكن حماس من العودة إلى الموقع الذي كانت تحتله أيام ياسر عرفات، كمنظمة مقاومة فعالة بدون أعباء الحكومة. من شأن إعلان حماس الأخير بأنها لن تعترف بشروط الرباعية وبأنها لن تستجدي شرعية وجودها من أحد أن يدفع باتجاه مثل هذا الاستنتاج. بمعنى آخر، يتعذر الجمع بين المقاومة والحكومة في آن واحد. 

ولكن علاقة فتح بحماس هذه المرة باتت بثلاث زوايا، إذ لا مفر من الأخذ بعين الاعتبار وجود محمد دحلان المدعوم من قبل الإمارات العربية المتحدة ومن قبل رئيس مصر "المنتخب" عبد الفتاح السيسي. ويذكر أن خلاف عباس مع دحلان كانت له تجليات مدوية شهدت تبادلاً للاتهامات والشتائم على الملأ. وقد يكون سبب ذلك المال الذي أغدقه دحلان على المرشحين المتنافسين في الانتخابات المحلية داخل الضفة الغربية. بموازاة ذلك، هنالك أيضاً الإشاعات التي روجت لوجود صفقة بين دحلان وحماس في غزة، والتي - رغم استبعادها - قد تكون وراء تأجيج الخلاف. أياً كان الأمر، فإن عودة دحلان للظهور كانت عاملاً من العوامل التي دفعت الرئيس الفلسطيني باتجاه حماس. 
إلا أن أياً من هذه الحسابات لا تكتمل دون الأخذ بعين الاعتبار أفعال إسرائيل ذاتها. بدا رد فعل نتنياهو على حكومة الوحدة الوطنية كما لو كان قد صمم بعناية لدعمها( بغير قصد). لم ينسق رئيس الوزراء الإسرائيلي موقفه مع واشنطن ولا يبدو أنه استشرف إعلان أمريكا أنها ستعمل مع حكومة الوحدة الوطنية وإن كان بشروط صارمة. ثم ما كان من الحكومة الإسرائيلية إلا أن سارعت إلى تصليب موقف عباس من خلال إصدار تراخيص ببناء 1500 وحدة سكنية والمضي قدماً بخطة لبناء 1800 وحدة استيطانية أخرى في الضفة الغربية. 

لا يوجد ما يمكن أن يعزز الحاجة إلي الوحدة في عقل أي فلسطيني، بغض النظر عن مكان إقامته، مثل الإجراءات “العقابية” التي تعلنها الحكومة الإسرائيلية التي لا يؤمن أعضاؤها الأساسيون بحق الدولة الفلسطينية في الوجود. 

إذا كان مشعل محقاً في اعتقاده أن عباس وصل إلى طريق مسدود في مفاوضاته مع إسرائيل — وكل شيء فيما يبدو يشير إلى هذا الاستنتاج — فإن الرئيس الفلسطيني سريعاً ما سيجد نفسه بلا طريق أيضاً. وإذا ما اختفى من المشهد إما عبر الاستقالة أو بسبب شيخوخته، فإن فتح ستعود مجدداً إلى مكوناتها القبلية. فعباس هو آخر زعيم من أبناء جيله يمثل منظمة فتح التاريخية. في تلك اللحظة ستكون حماس في وضع أفضل من فتح يؤهلها لأن تتحرك باتجاه تحقيق هدفها السياسي الأهم ألا وهو تزعم منظمة التحرير الفلسطينية. ولذا، قد يكون احتضان حماس لحكومة الوحدة الوطنية مع فتح قراراً حكيماً على المدى البعيد. إلا أنها، كما هو الحال دوماً، ستواجه في طريقها عوائق ليست باليسيرة على المدى القريب.

(ذي هافينغتون بوست)

رابط المقال بالإنجليزية اضغط هنا
التعليقات (0)