(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)...- قرآن كريم -
تمكّن المصريّون، بفضل مقاطعتهم لانتخابات الدمّ التي أُجريت أيّام 26 و27 و28 أيار/ مايو 2014، من قلب المعادلة التاريخية التي ظلّت تحكم مصر لدهور طويلة: معادلة
الفرعون والشعب.. الفرعون يحمل الشعب على طاعته عبر الاستخفاف به.. وكلّما أمعن في استخفافه زاد الشعب في طاعته.. هكذا كانت العلاقة بين الطرفين عبر التاريخ.. وبذا شهد القرآن الكريم "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"...
***
جاء عبد الفتّاح
السيسي يستأنف سيرة الفرعون في مصر فيقع حافره على حافره.. جاء يطلب علوّا في أرض مصر ويجعل شعبها شعبين.. يعتقل الآباء ويقتل الأبناء.. جاء يستخفّ المصريين.. فيطيعه بعض المصريين...
• استخفّهم لمّا استعملهم في تحقيق أحلامه.. ولقد ورث عبد الفتاح السيسي من فراعنة المصريين الحلمَ مصدرًا للمعرفة.. رأى في المنام رؤى عديدة: رأى بيده اليسرى ساعة أوميغا خضراء اللون.. ورأى بيده اليمنى سيفًا أحمر.. وبين الساعة والسيف رأى الرئيس المصريّ الهالك أنور السادات يبشّره بأن سيكون رئيسا لجمهورية مصر العربية.. ولعلّه بشّره بنفس المصير الذي صار إليه سنة 1981..
• واستخفّهم لمّا طلب إليهم التفويض مستغلّا جاذبيّة شعار الحرب على الإرهاب.. ولمّا لم يكن بمصر إرهاب يسوّغ للمؤسّسة العسكرية التدخّل بعد ثورة 25 يناير السلميّة.. فقد اختلق الرجل مقولة "الإرهاب المحتَمَل".. ومرّ سريعا من التفويض إلى التنفيذ.. خرج المفوّضون يوم30 جوان 2013.. ونظر هو في ساعته الأوميغا ليقود انقلابه العسكريّ على الرئيس المنتَخَب يوم 3 يوليو 2013.. واختطفه إلى جهة غير معلومة.. وأعمل سيفَه في رقاب المصريين وولغ في دمائهم تحقيقا لما جاء في حلمه...
• واستخفّهم لمّا نجح في توظيف أدوات عديدة لتحقيق أحلامه.. طلب التفويض فأجابته إلى طلبه:
1. قوى أدركت أنّ معارك الصناديق لا يمكن أن تقدّم لها شيئا يُذكر.. فخيّرت أن تستبدل الحذاء العسكريّ بالصندوق الانتخابيّ.. في انتظار ثورة أخرى بعد 60عاما لا تأتي بالإسلام السياسيّ الذي تنبذه لأنّه ينغّص عليها ديمقراطيتها...
2. جموع الغاضبين من حكم الإخوان من مواطنين مخدوعين ومن فنّانين رقّت مشاعرهم حتّى اتخذوا من الجثث المتفحّمة والدماء المسفوكة ميادين لرقصاتهم ومختَبَرات لأصواتهم.. واستلهموا منها جديد إبداعاتهم "تسلم الأيادي"...
3. إعلاميّون يعملون لدى رجال أعمال مبارك الذين كوّنوا ثرواتهم على حساب الشعب المصريّ المفقّر والذين لولا تكرّشهم لما جاع المصريون ولولا جشعهم لما سكنوا العشوائيات.. عمل الإعلاميون المسعورون سحرةً لدى الفرعون الأخير.. يخيّلون للناس أنّ جنّات عدن تنتظرهم خلف نظارتي السيسي السوداوين...
• واستخفّهم لمّا دعاهم إلى الانتخابات التي لم يكن يرى ضرورة لها ليفوزَ بقصر الاتحادية خَلَفًا للرئيس المنتخب الدكتور محمّد مرسي رغم أنف الشعب المصريّ الذي أنجز ثورة مهرها بدمائه وخاض استحقاقات انتخابية متعدّدة عبّر فيها عن اختياراته.. إذ إنّه كان يعلم قبل 35 سنة أنّه سائر إلى القصر لا محالة وسيكون، بإذن حلمه، رئيس جمهورية مصر العربية رغم العوائق والعراقيل.. ولذلك ظلّ قابعا في بعض طيّات التاريخ تخبّئه الأيّام للمستقبل المصريّ رغم أنف التاريخ والجغرافيا ورغم "إذا الشعب يوما أراد الحياة" التي ردّدتها الجموع في ثورات الربيع العربي.. لقد اتخذ من الانتخابات صرحًا يبلغ به الأسباب.. أسباب حكم مصر والارتداد بالمصريين إلى ما قبل التاريخ.. حتى لقد جعلت منه بعض الأبواق نبيّا بل إلاهًا لا معنى للشعب المريد في حضرته...
***
غير أنّ الشعب المصريّ العظيم الذي قاطع
انتخابات الدم التي جيء بها لاستكمال التقويض قد أبان عن ذكاء نادر وكشف عن قوّة لا تُقهَرُ.. إذ سحب بإضرابه عن الانتخابات البساط من تحت أرجل قائد الانقلاب العسكريّ.. وتركه على ساحل اليمّ عاريا في حركة جزر لا يعرفها غير من كانت له عبقريّته.. فبعد أن سوّلت له أبواق الدعاية دمويته وزيّنت له جريمته استفتى الشعب، حتى يستكمل بالصناديق الفقرة المتبقّية من التفويض، فأفتى الشعب المصريُّ بأنّ عبد الفتاح السيسي، الذي لم يكن مشيرا، لا شعب لديه يوافقه سوى جمهور من الراقصات والمزغردين من أمّة يتجاوز عدد أبنائها وبناتها 80 مليون نسمة.. اللهمّ أن تزعم جوقة الفرح المخادع بأنّ الشعب المصريّ العظيم قد تحوّل إلى راقصات وراقصين...
لقد وضع الشعب المصريّ حدًّا لمهزلة التفويض بمقاطعته لانتخابات الدّم وجدّد العهد مع "إذا الشعب يوما أراد الحياة".. وظلّ التفويض حلما مقيّدا بين جماعة الراقصات والمزغردين أولئك الذين تحوّلوا بمفعول أحلام السيسيّ من العويل إلى التهويل حتى كأنّ الناخبين كانوا كائنات لا تراها العين المجرّدة ولا ترصدها عدسات المصوّرين في القرن الحادي والعشرين...
لقد تمكّن الشعب المصريّ بهذه
المقاطعة التاريخية لمهزلة الانتخابات التي جرت أيام 26 و 27 و 28 ماي 2014 من هدم الصرح الذي أراد عبد الفتاح السيسي أن يبنيَه من جماجم المصريين ليبلغ به
أسباب السماوات... "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ.. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ" ...
***
استأنف المشير بلا حرب عبد الفتّاح السيسي تاريخ الفراعنة ليكون الفرعون الأخير والمبشّر بنهاية زمن استخفاف الحكّام بالمحكومين.. لذلك فإنّ مصير فرعون ينتظره لأنّ الشعب المصريّ قرّر أن يضرب بعصا إرادته بحر الهوان الذي اعتقله فيه الفرعون فينجوَ وينجوَ معه المستقبل المصريّ... "وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ"...