بإيقاع لاهث يقدم الكاتب العراقي أحمد سعداوي في روايته (فرانكشتاين في
بغداد) جدارية لخارطة العنف في عاصمة بلاده وقد بدت طاردة لأهلها وعجوزا يتعرض تراثها للبيع والانهيار بفعل تفجيرات عنيفة يذهب ضحيتها أبرياء ويصير لهم يتامى وأرامل ينتظرون الثأر الذي يتكفل به مخلوق أسطوري ولكنه يجسد أشواق الناس إلى العدل.
والمخلوق الذي يتكفل بمهام الانتقام صنعته يدا بائع العاديات "هادي العتاك" أو خياله إذ حكى أنه قام بجمع أشلاء بشرية من بقايا قتلى التفجيرات الإرهابية عام 2005 ولصق القطع معا فصارت كائنا أطلق عليه "الشسمه" وهي كلمة عراقية دارجة تعني "الذي لا أعرف" ثم سعى هذا "الشسمه" للانتقام من المجرمين الذي قتلوه أو أنهوا حياة الناس الذين تكونت منهم أجزاؤه.
ولكن "الشسمه" واجهته مشكلة هددت بقاءه إذ كان العضو الذي ينتقم له من قاتله يتحلل تلقائيا وهكذا ظل يحتاج إلى قطع غيار بشرية جديدة ليواصل مهمة لا يبدو لها نهاية فاضطر للجوء إلى الاستعانة بقطع جديدة من أجساد مجرمين وأبرياء وهذا السلوك يتناقض مع الفلسفة التي من أجلها "خلق" ونذر لها نفسه.
والرواية التي فازت الثلاثاء الماضي بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2014 تقع في 352 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن (منشورات الجمل) في بيروت.
وسعداوي مؤلف
الرواية روائي وشاعر ولد عام 1973 وصدر له ديوان شعر عنوانه (عيد الأغنيات السيئة) 2001 وروايتا (البلد الجميل) 2004 و(إنه يحلم أو يلعب أو يموت) 2008.
وفي رواية سعداوي فإنه تحت الاحتلال الأمريكي تحولت بغداد "إلى مكان موبوء بالموت" ويكون "الله فقط ليس طائفيا ولا حزبيا" وما دونه غير متسامح والمدينة طاردة حتى لعراقيين أتوا إليها منذ سنين إيمانا بمواهبهم وانتظارا للتحقق الشخصي ولكن العنف العام يجعلهم يغادرونها بلا عزاء بعد تبدل وجه المدينة بحيث لا يتعرف عليها أهلها وهم مهددون بموت مجاني في تفجيرات أو محاصرون بنهم الجائعين لاستلاب ما لدى الآخرين ومطاردة الحالمين بالحفاظ على البيوت الأثرية وتحويلها إلى مراكز ثقافية.
وهناك مغادرة أخرى إلى خارج العراق وتمثلها إيليشوا أم دانيال وهي عجوز قتل ابنها دانيال في الحرب العراقية الإيرانية وهاجرت ابنتاها ماتيلدا وهيلدا من البلاد وسوف تلحق بهما الأم في نهاية 2005 بعد أن عاشت على ذكرى ابنها الذي لا تصدق أنه مات وانتظرت عودته في حين ينتظر كثيرون موتها طمعا في بيتها وهو من البيوت التراثية إذ يريد تاجر عقارات أن يجعله فندقا ويطمع "هادي العتاك" بائع العاديات في ما تقتنيه من تحف.
ولا يقطع المؤلف بيقين في شيء بما في ذلك شخصية "الشسمه" الذي أطلقت عليه السلطة "المجرم إكس" ورآه البعض "المخلص" واعتبره آخرون "فرانكشتاين".
ويصور سعداوي بحساسية فنية لحظة حلول الروح في الجثة التي اختفت من بيت هادي العتاك فجأة بعد تفجير انتحاري في أحد الفنادق وراح ضحيته حارس الفندق حسيب محمد جعفر (21 عاما) وتلاشت جثته تماما وكاد العتاك نفسه يكون أحد ضحايا التفجير.
فيصور المؤلف زيارة روح الحارس لعائلته ثم طوافها حول الفندق وموقع التفجير بحثا عن جسده ليرتديه ثم تعب وشاهد شخصا عاريا نائما في بيت العتاك "تأمل هيئته الغريبة والبشعة... مس بيده الهيولانية هذا الجسد الشاحب ورأى نفسه تغطس معها. غرقت ذراعه كلها ثم رأسه... تلبس الجثة كلها... كما تيقن في تلك اللحظة أن هذا جسد لا روح له تماما كما هو الأمر معه. روح لا جسد له."
وبنهوض الكائن البشري المكون من بقايا الضحايا خرج الأمر عن سيطرة هادي العتاك الذي فوجئ باختفاء الجثة بعد أن "عالجها تقطيعا وخياطة حتى أنجز الجثة بشكل مقبول" ثم صارت الجثة عبئا عليه وجاء اختفاؤها إنقاذا له "لتعفيه من مهمة... تقطيعها وفتق خيوطها ثم رمي أجزائها وتوزيعها على المزابل داخل الحي وشوارعه وأزقته."
وصار "الشسمه" مشهورا بآثاره - ضحاياه لأنه عصي على الرؤية فلا يتحرك إلا في الليل وله قدرة على تسلق الجدران والمراوغة في الهروب من المطاردات ويخترق الرصاص جسده ولا يموت ولا ينزف ويستطيع النجاة بعد معارك يقتل فيها أعداءه بيديه ولا يهدف إلى استعراض قوته "هو لا يقصد أيضا إخافة الناس. إنه في مهمة نبيلة" كما يصفه صحفي يتقصى الحقيقة.
وصار "الشسمه" يكتسب وجوده من خيال الآخرين .. فإيليشوا ذات البصر الكليل تعتبره ابنها دانيال وتؤكد للناس أنه عاد ولكنه "يرفض أن يخرج ليراه الناس.. يخرج في الليل من سطح لسطح. يختفي لأيام ولكنه يعود" أما "الشسمه" فيرى فأدهشته السمعة السيئة التي أحاطته واتهامه بالإجرام "ولا يفهمون أني أنا العدالة الوحيدة في هذه البلاد... أنا الرد والجواب على نداء المساكين. أنا مخلص ومنتظر... سأقتص بعون الله والسماء من كل المجرمين سأنجز العدالة على الأرض أخيرا."
ويرى أنه بتكوينه من أجزاء لبشر ينتمون لأعراق وأجناس وطبقات اجتماعية مختلفة يمثل "الخلطة المستحيلة التي لم تتحقق سابقا. أنا المواطن العراقي الأول."
واكتشف "الشسمه" قبل إتمام مهمة قتل ضابط فنزويلي "من المرتزقة ... كان يقود الشركة الأمنية المسؤولة عن جذب الانتحاريين" ورجل من تنظيم القاعدة وتاجر موت يزود "العصابات المسلحة" بالديناميت ومواد التفجير أن أجزاء من لحمه تتساقط بعد الثأر لأصحابها وانتهاء الحاجة لوجودها كما تسقط قطع أيضا إذا لم يثأر لأصحابها في الوقت المعلوم.
وفي كلتا الحالتين يحتاج إلى تعويضات من لحم طازج لضحايا جدد وأسعد ذلك هادي العتاك الذي رأى أنه من الجيد أن يتحلل جسد الكائن الغريب لينتهي من رعبه.
وكان "الشسمه" يوصي مساعديه الستة بألا يجلبوا له "لحوما غير شرعية أي لحوم مجرمين" ولكنه تشكك في مسألة النقاء التي رآها نسبية ففي كل إنسان نسبة من الإجرام والبراءة وتمكن مساعدوه من تدبير ما يحتاج إليه من قطع غيار جديدة وأوقعه ذلك في حيرة فذات مرة بدا مزاجه عكرا وأصيب بتشوش وارتباك إذ استخدم مساعدوه دون قصد أجزاء من جسد إرهابي.
وتحت ضغط الحاجة الدائمة لأجزاء جديدة يرى جواز الاستعانة بأعضاء مجرمين "بدعوى أنها الأجزاء الأكثر براءة لدى هذا المجرم"
إلا أنه اكتشف أن قائمة المطلوبين مفتوحة لن تنتهي.