لم تطنب الصحافة الروسية طيلة السنوات الماضية في إطراء ومدح زعيم كما فعلت مع فلاديمير بوتين، في خطوة هي الأولى من نوعها بالنسبة لزعيم روسي أو سوفييتي منذ عهد جوزيف ستالين عام 1929، وذات يوم ذهبت صحيفة "خريبا نوفوستي" بعيدا بأن اقترحت تقديم هدية في عيد ميلاد بوتين وهي قبعة مزينة بالفراء والأحجار الكريمة ارتداها والد القيصر الروسي ايفان الرهيب ( باسيل الثالث أثناء تتوجيه عام 1502) وتمثل القبعة رمزا للتسلط والاستبداد.
كان بوتين، المولود عام 1952 في لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) وخريج كلية الحقوق من جامعة لنينغراد عام1975، رجل المهمات الغامضة المثيرة للشك، وكانت علامات السؤال ترتسم وراء كل مرحلة من حياته، إذ أمضى سنوات حياته عميلا للمخابرات السوفيتية (كي.جي.بي) في ألمانيا الشرقية في أعمال تجسس لا يعرف حتى الآن طبيعتها.
وحين تغير اسم الجهاز إلى" الأمن الفيدرالي" أصبح بوتين رئيسا لهذا الجهاز لعام واحد كلفه بعدها الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين بتشكيل الحكومة الروسية الرابعة منذ سقوط الشيوعية وذلك عام1999، وكانت حكومة هشة وقفت الصحافة منها موقفا معاديا، ولم يتقبلها الروس.
غير أن بوتين رجل المخابرات الخطير وجد طوق النجاة وضالته في حرب القوقاز، واستفاد من الحرب في الشيشان برفع رصيده الشعبي لدى الوطنيين الروس، واستغل كل ما لديه من مفردات (البذاءة ) ليواجه المقاتلين الشيشان، خاصة وأن روسيا بالكاد نسيت هزيمتها في أفغانستان، وقال بأنه سيطاردهم "حتى في الحمامات".
جاءته الفرصة الذهبية مع استقالة الرئيس يلتسين بعد ثماني سنوات من الحكم من سقوط الشيوعية، ونقل سلطاته عام 1999 إلى بوتين وفقا للدستور، ليصبح الرئيس المؤقت إلى حين الانتخابات الرئاسية، ثم رئيسا منتخبا عام 2000 وأعيد انتخابه في عام 2004.
وضعته حروبه ضد الشيشان، كبطل روسيا الجديد، قيصرها غير المتوج، وطفلها المدلل، المتجهم الصامت والفظ، ولبس خوذة جنرال ومضى بجنوده إلى تخوم الشيشان دون خطوط حمراء، وحول الشيشان إلى أرض محروقة، وفعل الكثير مما يرقى إلى ما فعله جاره الصربي سلوبودان ميلوفتش، أو جاره البعيد ارييل شارون.
كان أسير الشيشان، استمد قوته طالما أمد الحرب كان طويلا، وأنفق على الحرب من المساعدات الاقتصادية التي كانت تأتيه من صندوق النقد الدولي، لذلك يمكن تسميتها بالحرب التي تمول بواسطة الصناديق، فالغرب وإن كان يكره الروس السلافيين فهو يكره المسلمين أكثر.
اعتمد على الأجهزة الأمنية الدعامة الأساسية لسلطته وأبلغ الروس بأن "الإرهاب أعلن الحرب على روسيا"، وضمن استراتيجيته لمحاربة "أعداء الأمة" فرض سيطرة محكمة وصارمة على الأقاليم والجمهوريات الروسية التسعة والثمانين، وإعادة تشكيل فرق "دروزينيكي" غير المسلحة التي يرجع تاريخها للعصر السوفيتي، والتي تولت مراقبة الشوارع بحثا عن "إرهابي القوقاز" واقتلاع جذور المواطنين من ذوي الأصول غير السلافية وملاحقتهم بشكل ينطوي على عنصرية واضحة ووحشية.
في العام 2004 اجتاحت خمس هجمات روسيا: تفجير موقف حافلات، وتفجيران في وقت واحد أدى إلى إسقاط طائرتين تجاريتين، وتفجير في محطة قطارات الأنفاق، وحصار مدرسة مقاطعة اوسيتيا الشمالية.
وحمل بوتين مسؤولية تصعيد الهجمات بسبب سياسته المتشددة في الشيشان، لأنه كان يرفض مثلا إجراء أي حوار مع أصلان مسخادوف "المعتدل".
وأصبح من الشائع أن يصور بوتين في الغرب، بأنه ستالين مصغر، وبدا هذا التشبيه صحيحا إلى حد ما بعد سلسلة القرارات التي اتخذها قبل سنوات، فقد جرد بوتين الإعلام من الحرية، وعمل على إقصاء منافسيه أو الزج بهم في السجن، وصاغ هيكلا إداريا صلبا يدين له بالولاء الكامل، وأعاد البلاد إلى حكم الدولة البوليسية.
وأسس انضباطا من نوع مختلف، انضباطا قائما على الخوف المؤدي إلى القصور الذاتي والخمول، وقد كشفت أحداث المدرسة الروسية عن هذا الضعف، وسألت صحيفة "فيتشير نايا موسكفا" الروسية ذات يوم بعد مذبحة مدرسة بيسلان: من هو المذنب؟ لقد لام بوتين الجميع عدا نفسه.
ولم تجد إجراءات بوتين أي صوت احتجاج في روسيا، فقد قيدت الحرية في التظاهر عبر قرار يمنع وجود اكثر من (20) شخصا عند التظاهر.
المطلعون يرون أن أفعال بوتين المتشددة والأمنية ليست مفاجئة، بوتين شاهد تفكك الاتحاد السوفيتي وكان قلقا منذ اليوم الأول من تفكك روسيا نفسها، اقنع الجميع أن هذا الخوف ليس افتراضيا، لذلك لجأ إلى خبراء تعديل الدستور بهدف تمديد فترته الرئاسية والتي كانت تنتهي عام 2008 لأنه طرح نفسه بوصفه الضمانة الوحيدة لوحدة الأراضي الروسية والحامي لأمنها القومي.
لكنه كإجراء انتقالي، وكنوع من تبادل السلطات الشكلي، رضي بتولي منصب رئيس الوزراء 2008 وكان هو الرئيس الفعلي للبلاد. حتى جاءت انتخابات 2012 فأعيد انتخابه رئيسًا لجمهورية روسيا الاتحادية وكانت جهات من المعارضة قد اتهمته بتزوير الانتخابات و خرج على إثرها مظاهرات عدة.
واشنطن كانت في موقع المتفرج على جميع خطوات بوتين في تثبيت أركان حكمه وفي حروبه وفي عدائه لجارته أوكرانيا ولم تسد الطريق أمامه ولا حاولت إيقاف اندفاعه، وعلى العكس تزايد التقارب بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن وبوتين في نظرتهما المتشددة إلى "الإرهاب" باعتبارها "حرب الخير ضد الشر" رغم أن الروس كانوا سعداء بغرق الولايات المتحدة في مستنقع العراق، وكانت مشكلات أمريكا في العراق بالنسبة للروس خبرا مفرحا، كما كتب الصحافي الأميركي مايكل هيرش.
ورغم أن بوش تجاوز كل القوانين في حربة ضد "الإرهاب" فان الخطر الأكبر عنده هو أن يتطاول الصديق بوتين ويتجاوز حدوده هو الأخر، باتباع تكتيك بوش ضد "الإرهاب" وهو "الضربات الاستباقية " ضد الثوار الشيشان.
الشيشان لم تكن الصداع الوحيد الذي عانى منه بوتين فقد أصمت آذنيه الهتافات المدوية التي انطلقت من ساحة الاستقلال بكييف، فأوكرانيا الساحة الخلفية للبيت الروسي، ومع أن المراقبين أعلنوا عن تزوير الانتخابات الرئاسية الأوكرانية عام 2010 التي فاز فيها فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن بوتين رفض باستعلاء الدعوات إلى إلغاء الانتخابات وحذر من التدخل الغربي، وتمترس وراء عناده متهما الغرب بالتأمر على روسيا وأوكرانيا.
ظن بوتين أن بيده صفقة ضمنية مع صديقه بوش وهي: سنتعاون على "الإرهاب" وتدع أنت فناءنا الخلفي وشأنه، هذا يعني على وجه الخصوص أوكرانيا التي كانت سلة خبز روسيا وأحد أعمدة قوتها السابقة.
واعتقد بوتين أنه نجح في إقصاء الغرب عن أوكرانيا بعد أن انتهاء "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، بعودة رجله يانوكوفيتش إلى السلطة، وبإدخال زعيمة المعارضة تيموشنكو إلى السجن، وكاد أن يقتنع أنه قطع خط عودة أوكرانيا إلى الغرب، لكن ما حصل في الأيام الماضية في كييف ولاحقاً في مقاطعات أخرى من احتجاجات شعبية بلغت حد الثورة افقده حليفا استراتيجيا وتولى خصمه اولكسندر تورتشينوف رئاسة الجمهورية لمرحلة انتقالية.
وردا على ذلك لجأ بوتين إلى الحل العسكري باحتلال القرم بحجة حماية المواطنين من أصل روسي وهو ما يجد صدى إيجابيا لدى المواطنين القوميين في روسيا.
ويجد الغرب نفسه أكثر فأكثر أمام حل مؤلم لا يؤيده، لكنه ربما يضطر إلى تقبله في النهاية وهو التخلي عن القرم لروسيا من أجل إنقاذ استقلال أوكرانيا.
ولا تبدو أي دولة عظمى مستعدة لمواجهة روسيا من أجل الدفاع عن القرم، التي كان الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشيف فصلها عن روسيا في 1954 لضمها إلى أوكرانيا، ضمن الاتحاد السوفيتي.
وفي الوقت نفسه، يريد الغرب إبعاد أوكرانيا عن مجال تأثير موسكو وضمان وجود دولة صديقة على الحدود الغربية لروسيا.
لكن مع الأسف كما يقول البروفسور الكسندر موتيل من جامعة "راتغرز" في ولاية نيوجيرسي أن " لا شيء في خطاب أو أعمال بوتين يوحي بأنه سيتوقف عند القرم"، وهو ما يناقض ما ذهب إليه جيمس نيكسي الخبير في لندن الذي اعتبر أنه من المستبعد أن يواصل بوتين توسعه. وقال إن الرئيس الروسي "حقق الهدف الذي كان ينشده" فقد "سقطت القرم".
بوتين لاعب ماهر يلعب في جميع الملاعب خصوصا العربية (سوريا، العراق، مصر) ويسجل أهدافا حاسمة في مرمى الفريق الأميركي الذي يحاول تعديل النتيجة عبر البوابة الأوكرانية، وربما عبر صفقة في سوريا.