كتاب عربي 21

أنا الدولة "وهذه الأنهار تجري من تحتي"!

ساري عرابي
1300x600
1300x600

عرض القرآن صورا متعددة لمعنى الطاغوت، كلها تعبر عن حقيقته، وتكشف عمّا يتمتع به من قدرة فائقة على السطو على ضمائر الناس، ومصادرة إمكاناتهم في الاختيار، وقد عَرَضَتْ بعض هذه الصور ما قد يبدو الحد الأقصى الذي يمكن للطاغوت البشري أن يصله، وبهذا فتح القرآن الباب واسعا في تحذير البشرية من الأشكال الكثيرة لاستعبادهم، ابتداء من أنواع الذل والصغار والهوان والعبوديات الجاثمة في أنفسهم، إلى الطغيان الخارجي المتسلط عليهم، كما وزود المبلغين رسالات ربهم بذخيرة معرفية مشفوعة بتجارب ومحاولات ضخمة في تحرير البشرية من أشكال العبوديات تلك على أيدي الرسل والأنبياء وحوارييهم وصحابتهم والمصلحين والدعاة والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

بيد أن تشوشا حال دون الوعي بأشكال الطاغوت المتعددة، ساهم في خلقه علماء ودعاة وإسلاميون فضلاً عن المنافقين من مشايخ البلاط السلطاني، حينما تصرفوا وكأن المقصود بالطاغوت هي تلك العبوديات المباشرة والصريحة لأصنام أو لبشر ادعوا الألوهية، وهو ما شوش على وعي عامة المسلمين، وعطل المهمة الأصلية للحركة الإسلامية (من حيث هي أمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لا من حيث هي جماعة إسلامية متعينة في تنظيم)، أي مهمة "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"، وتعطل هذه المهة، وتحول الحركة الإسلامية إلى حزب حداثي يسعى للوصول إلى السلطة مع الحفاظ على البنية الطاغوتية، يجعل القرآن كتابا تاريخيا، أو محض نص للتبرك، فبالرغم من الدور النبيل للحركة الإسلامية داخل مجتمعاتها، والعظيم في مواجهة الاستعمار الخارجي، فإنها لم تهتم بالقدر الكافي بأشكال الطاغوت المعاصرة.

يمكن القول؛ أن الدولة على مر التاريخ، وفي كل الأشكال التي اتخذتها، وأيّا كانت تفسيرات نشوئها، إن كانت دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا، أو دولة تنظيم التناقضات بين الطبقات، أو دولة تنظيم التناقضات داخل الطبقة المسيطرة نفسها، أو الدولة فوق الطبقات كلها، فإنها في حقيقتها، وبقدر ما تتخلص من المرجعية المفارقة، وتحيل نفسها إلى المطلق النهائي، فإنها تنزع نحو التسلط والعلو على المجتمع بأفرداه وطبقاته وأنماط تمثُّله المتنوعة، وتبقى في صراع لتأكيد علوها وتثبيته وتعزيزه، خاصة وأنها تخلق طبقة قائمة بذاتها، ذات مصالح خاصة مرتبطة بها، على تفاوت في مستوى العلو والقهر والتسلط بحسب قوة المجتمع، والأنظمة الحاكمة، والتجارب التاريخية التي عبرتها المجتمعات، والأثواب التي تغطي بها الدولة بنيتها الطاغوتية.

هذا الكامن الطاغوتي ثابت في طبيعة الدولة، ابتداء مما أسماه ماركس "نمط الإنتاج الآسيوي"، وهو النمط الذي يتجلى فيه الطاغوت كمضاهي للطبيعة أو متحكم في أقوات الناس من خلال تنظيم الري النهري. والذي يتحكم في طعام الناس وسقائهم، سوف يتحكم في أمنهم، فيصير هو الذي يحيى ويميت، يحيى ويميت بالإطعام والسقاية، أو بالقتل، فبقدر ما تبدو الطبيعة للناس متحكمة بأمطارها وينابيعها وشمسها بمصائرهم، فإن الحاكم يبدو لهم أيضا متحكمًا في الطبيعة بإدارته للنهر، ومن ثم لم يعد ادعاء الحاكم للألوهية أو رؤية الناس له إلها؛ أمرا مستغربا، ذلك أن الوعي البشري مع تقادم الزمن على حالة العبودية المستقرة عجز عن تجاوز المظهر المادي إلى معرفة الذي "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر"، ومن هنا جاءت حجة إبراهيم الدامغة بتجاوزها للظاهر المادي، حينما احتج بعجز الحاكم عن التصرف في الطبيعة على الحقيقة، بعد أن ادعى أنه يحيي ويميت!

أشار القرآن لمرتكزات "النظام: System" في استعباده للناس؛ من أهمها ادعاء الشرعية "أليس لي ملك مصر"، وإخضاع الناس بالسيطرة على أرزاقهم "وهذه الأنهار تجري من تحتي"، وإخضاعهم باحتكار أدوات العنف "أنا أحيي وأميت"، وتجسيد المطلق ونفي أية مرجعية أخرى "أنا ربكم الأعلى"، وهندسة وعي الجماهير وادعاء الأفضلية: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وذلك كله يربط معنى الوجود في أذهان الجماهير بالنموذج القائم، سمي دولة أو لم يسمّ.. وقد كانت الإشارة القرآنية لافتة إلى الأدوات "الفرعونية" في قتل الثورة، وقمع التمرد، وصرف الجماهير عن دعوة الحرية "يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون".

وإذا كان ماركس قد تحدث عن "نمط الإنتاج الآسيوي"، ومن بعده جمال حمدان عن "المجتمع النهري" في تحليله للشخصية المصرية، فإن هذا النمط بهذا المستوى من التطرف لم يكن خاصا بآسيا، ولا بمصر، بل لعله غلب على الدول الأولى في التاريخ الإنساني، وهو بكوامنه النازعة إلى التسلط والعلو على الناس، مستمر وإن بأشكال متنوعة ومستويات متعددة من هذا التسلط، وسيبقى كذلك ما بقي قانون التدافع حاكمًا لعلاقات البشر.

هذه المرتكزات لم تتغير في كل النماذج الحديثة، وإن بقيت في بعضها تقارب ذلك السفور، كما في الدول الشمولية وأكثر دول العالم الثالث، فإنها بقيت، في النماذج المتطورة، ثاوية من خلف أقنعة بالغة الذكاء تضمن بها استمرار احتياج الناس مع ولائهم، وهذا يبدو واضحًا في الأنظمة التي تستهلك آدمية الإنسان، وهي تمنحه المقدرة على اللهاث المستمر خلف كمالياتها، بينما يمحضها ولاءه رغم أنه لا يدور إلا في فلكها وخدمة لها غافلاً عن بذله إنسانيته ومعنى وجوده لتحريك ماكينتها وضمان استمرارها!

لا يحتاج النموذج الفرعوني في بلادنا إلى مزيد عناء لبيان سماته الفرعونية من حيث علوه الطاغي على المجتمع، حتى لو صلى الحاكم وصام، واتخذت دولته من كلمة التوحيد شارة لها، فإذا كانت الأنهار تجري من تحت فرعون، فإن الحاكم في بعض بلادنا، أو كلها، هو الأنهار، ويمنح اسمه للهواء والتراب، ويجعل ذاته المرجعية المطلقة التي يذوب فيها الوجود الذي يحكمه، ويستمد منها الناس المعنى، وهو الذي يعطي ويمنع ويحيي ويميت، ولأنه يقتل في المجتمع كل مقومات الاستقلال، فإن ولاءه بدوره للقوى الاستعمارية التي اختلقت له الكيان الذي يحكمه يصير أمرًا ميسورًا، فما يقتضي العجب، بعد هذا، فقط أن يُعتبر هذا الطاغوت، شخصًا كان أو الدولة، ولي أمر وجبت على الناس طاعته، مرضاة لله تعالى!
التعليقات (0)