فنون منوعة

"فبراير الأسود".. سينما مصر تنطق بمأساة سانت كاترين

فبراير الاسود
فبراير الاسود
فبراير الأسود" فيلم مصري كان يحلو للبعض وصفه بالمبالغة والفانتازيا الفنية وربما التمادي في جلد الذات؛ إلى أن جاء بالفعل "فبراير الأسود".

وفي 14 شباط / فبرايرالجاري وقعت في منطقة "سانت كاترين" (شمال شرق مصر) كارثة طبيعية أودت بحياة أربعة شباب مصريين الأسبوع الماضي اثناء رحلة جبلية شهدت هبوب عاصفة ثلجية نادرة الحدوث.

ووجه ذوو الضحايا ونشطاء وهيئات مصرية انتقادات شديدة للحكومة المصرية واتهموها بالتقصير تجاه تأمين مثل هذه الرحلات "لأنه ليس بين الضحايا أجانب"، فيما ردت السلطات المصرية بأن "الطبيعة الجغرافية لا تصلح مطلقاً لهبوط الطائرات، وبالتالي فشلت عملية الإنقاذ".

وهذا الواقع المؤلم عبر عنه الفيلم في 159 دقيقة بكوميديا سوداء تسخر من الواقع الذي يعيشه المصريون، فشقيق بطل الفيلم "صلاح "حاصل على دكتوراة في مجال الكيمياء شرح فيها كيف يمكن تحويل بكتيريا الهواء إلى طاقة تكفي استهلاك كل محافظات مصر؛ أما زوجته (عصمت) "فحاصلة على دكتوراة في كيفية تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة أكبر من السد العالي بـ 25 مرة ؛ ومع ذلك تضيق عليهما مصر بما رحبت فيضطران إلى عمل مشروع صغير لمقبلات الطعام (المخللات) للعيش منه.

وبالتأكيد لم تكن هذه صدمة هينة على باحثين بهذا الحجم فلجأ لطبيب نفسي نصحهما بضرورة ربط قيمة العلم بكل مناحي حياتهما مهما كان هذا الأمر شاقا حتى لا يصابا بالجنون؛ وفي محاولة منهما لتنفيذ نصيحته أطلقا على مشروعهما "طرشي (مخلل) نيوتن" نسبة إلى العالم الفيزيائي الشهير إسحق نيوتن.

أما بطل الفيلم (حسن) فهو أستاذ جامعي مؤمن بأن دوره هي تعليم الناس كيف يوقدوا الشموع بدلا من أن يلعنوا الظلام؛ وفي سبيل ذلك لا يكف عن دعوة طلابه للإيمان بأن مصر أجمل بلدان العالم وبأنه من رغم كل السلبيات "فيها حاجة حلوة"، لكن الطلاب يردوا على حديثه بابتساماتهم الساخرة فيقرر أن يدعوهم لرحلة سفاري مع أسرته إلى الواحات لاكتشاف الوجه الآخر من مصر الجميلة.

وعلى خلفية موسيقية تفوح بالأمل ظل أبطال الفيلم طوال الألف كيلومتر التي سافروها يستمتعوا بجمال الواحات من حول سياراتهم؛ ويوقفون السيارة متأملين المكان لعلهم يشبعون من سحر الطبيعة المحيطة بهم.

ولكن الوجه القبيح للطبيعة بدأ يكشر عن أنيابه لهم وضربتهم عاصفة ترابية شديدة بعثرت كل أشيائهم بل وأجسامهم حتى دفنتهم في أسفل موجة رمال متحركة ولم يبق منهم على سطح الأرض سوى رؤوسهم المنهكة .

اقتراب الموت لهذه الدرجة لم يجعل بطل الفيلم يفقد إيمانه بعظمة دولته وظل يطمئن أسرته بأن الحكومة لن تتركهم أبدا؛ وما إن انتهى من جملته إلى وبدا لهم بالفعل سيارة دفع رباعي تقترب منهم ؛ بدأ الأمل يدب في قلوب أبطال الفيلم مع ضحايا العاصفة الآخرين .

وبدأ مسؤول قوة الإنقاذ يتحدث إليهم ليشرح كيف أن عملية الإنقاذ ستتم على مراحل لأن معهم سيارة واحدة فقط لا تتسع لأكثر من أربعة أفراد ؛ كما شرح لهم أنهم سينقذونهم من خلال حبل مربوط على شكل دائرة كبيرة لسحب أجسامهم كما تسحب أجسام البقر (على حد تعبيره الذى عكس نظرة الحكومة للضحايا كما يظهر من وقائع الفيلم)؛ وهو ما تحمله الضحايا تشبثا منهم بنجاح عملية الإنقاذ أما ما لم يقووا على احتماله فهو أن قائد فريق الإنقاذ بدأ يسأل عن ضابط أمن الدولة الذى هو من بين الضحايا لينقذه أولا؛ ثم يعد الباقين بأنه سيعود لإنقاذهم و يتركهم ساعة كاملة لم يفقد خلالها الأستاذ الجامعي يقينه بأن الحكومة لا يمكن أن تترك مواطنين مصريين فريسة للموت.

عادت فرقة الإنقاذ ليدب الأمل من جديد في الأرواح لكن القائد هذه المرة سأل عن "رئيس محكمة" ثم "رئيس جمعية رجال أعمال" لإنقاذهم ؛ وحينما لم يتبق سوى مجموعة صغيرة سألهم الضابط "انتوا مين" فرد البطل بإستهزاء "احنا بتوع البحث العلمي" فوعدهم بأنه حتما سيعود لإنقاذهم.

تغرب الشمس ويحل ليل الصحراء المخيف دون أن تعود قوة الإنقاذ فيتأكد البطل من أن الحكومة ستتركه لكن الله لن يفعل؛ و يبدأ أولاده في البكاء خوفا من الموت بعدما سمعوا أصوات الذئاب وشعروا بازدياد حركة الرمال من تحتهم ما يعني أنه خلال نصف ساعة كحد أقصى ستدفن أجسادهم بالكامل.

وبطريقة فانتازية للغاية تليق بالفيلم الساخر؛ بدأت مجموعة من الكلاب تنزل من أعلى الجبل الرملي صوب الضحايا وهو يصرخون من شدة الخوف؛ لكن المفارقة هي أن هذه الكلاب هي من عملت على إنقاذهم بعدما تكاسل البشر عن إنقاذ  أقرانهم من بني البشر.

واعتبر طارق الشناوي الناقد الفني مأساة الفيلم أقل ترويعا من المأساة التي شهدها الواقع في سانت كاترين؛ ففي الفيلم تم أنقاذ الجميع ولو بواسطة الكلاب أما في الواقع فقد أصيب 4 أشخاص بينما قتل 4 آخرون جراء العاصفة الثلجية.

ومضى قائلا : الفن يخضع لقانون الممكن أن يحدث وليس قانون الحدث؛ الفيلم رغم أنه ليس أفضل أفلام المخرج محمد أمين إلا أنه نجح في استشراف الواقع ومعالجة "عقدة الخواجة" المعروفة في المجتمع المصري والتي تتجلى في تعامل الجهات الرسمية بحذر شديد مع أي مواطن أجنبي خوفا من سفارته بينما لا تتعامل بالمثل مع المصريين؛ وإن كان الفيلم لم يتطرق إلى أجانب واكتفى بتقسيم المصريين أنفسهم لطبقة درجة أولى تسارع الحكومة في إنقاذها وطبقة درجة ثانية لا تعبأ بها .

اتفقت معه في الرأي ماجدة موريس الناقدة الفنية التي قالت: بالرغم من النفي الرسمي من الحكومة لرواية إهمال ضحايا سانت كاترين لأن ليس من بينهم أجانب إلا أن هذا لا يمنع حق المبدع في أن يتلامس مع تراث وطنه حينما يقدم عملا فنيا كهذا؛ وتراث الثقافة المصرية يعرف التمييز تجاه الأشخاص ذات الحيثية والتي لها نفوذ اجتماعي أقوى بشكل يظهر في أي مأزق يتعرض له شخص ذو حيثية في مقابل آخر لا يتمتع بذات الحيثية وهو ما نجح الفيلم في عكسه لكنه لم يلق الضجة المناسبة لأن الكل تابعه كمجرد عمل ترفيهي ساخر ولم يخطر ببالهم أن يتحول لحقيقة؛ أما إذا كان العمل عرض بعد مأساة سانت كاترين فاعتقد أنه كان سيأخذ اهتماما أكبر وسيشاهده الكل من منظور مختلف.

أضافت موريس : مخرج الفيلم رجل سينمائي متكامل فهو يعبر عن وجهة نظره من خلال الكتابة ثم يقوم بإخراجها من خلال عمل فني سينمائي ؛ وهذه النوعية من الشخصيات الفنية دائما ما يكون لديها قدرة على التحليل المنطقي للواقع و قراءته بشكل يجعله قادر على استشراف المستقبل و توقع ما يمكن أن يشهده.

واعتبرت الناقدة الفنية هذا الإستشراف جزء من مهمة السينما التي ينبغي ألا تتوقف لدى رصد مشكلات المجتمع وعكسها على الشاشة بل وعرض المشكلات التي قد يتعرض لها الوطن في المستقبل ولم تخطر على بال بشر.

"فبراير الأسود" بطولة خالد صالح؛ إدوارد؛ ميار الغيطي؛ أحمد زاهر، ومن تأليف وإخراج محمد أمين.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم