تتنادى إلى أسماعي من دون انقطاع أخبار الكفاح الذي يخوضه الأوكرانيون لنيل مطالبهم. ونظراً لسعة اطلاعي على تاريخ أوكرانيا، فقد أحسست بعمق غيظهم وشدة شعورهم بالمرارة ومدى خوفهم من البقاء في فلك جيرانهم الروس. ولأنني أعرف الأوكرانيين حق المعرفة، فإنني أتفهّم قوة ارتباطهم بأرضهم وبثقافتهم العريقة وبتاريخ شعبهم التليد.
وكان الأوكرانيون مجبرين على تحمّل الكثير من التضحيات والشدائد خلال القرن الماضي. فقد كانت بلادهم تحت سيطرة قوة أجنبية غاشمة، وكانت أراضيهم مقسمة ومستباحة ومستغلّة. وكانوا شعباً مستغلاً بطريقة تخلو من الرحمة والإشفاق، وسبق له أن تعرّض لحملة تطهير عرقي من قبل الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين إبان الحرب العالمية الثانية.
وعقب سقوط ما يسمى «الستار الحديدي»، هبّ الأوكرانيون للخروج من ربقة السيطرة السوفييتية. وكانوا يحلمون بمستقبل يمكنهم أن يستعيدوا فيه وحدتهم وسلطتهم وحريتهم. ولكن، مع ارتباط اقتصاد أوكرانيا بالعجلة الاقتصادية الروسية، لم يكن تحقيق الأوكرانيين لحلمهم في
الاستقلال بالأمر الهيّن.
وكانت هذه الرغبة العارمة في أن يجدوا بلدهم وقد تحرر من النير الروسي، هي التي دفعت الأوكرانيين نحو تمتين أواصر العلاقات الاقتصادية مع أوروبا. وخوفاً من خروجهم عن مجموعة الدول الدائرة في فلك روسيا، عمد الرئيس بوتين إلى تحفيز القادة الأوكرانيين وتحذيرهم من الانجرار نحو علاقات أقوى مع أوروبا، وأجبرهم على الانخراط في كتلة «الاتحاد الجمركي» مع روسيا.
وتمثلت ردة فعل الأوكرانيين على رضوخ الحكومة لهذه التهديدات الروسية في انفجار جماهيري غاضب ضم مئات الألوف من المتظاهرين الذين تجمعوا في ساحة الاستقلال في كييف. وكانت احتجاجاتهم صاخبة ولكنها سلمية ومنظمة بحيث تحمل طابع الاستدامة. وفي محاولة منهم للإبقاء على ارتباط الحكومة الأوكرانية بعجلتهم السياسية، عمد الروس إلى وضعها بين خيارين، فإما أن تعرّض نفسها للمخاطر الانتقامية، أو أن تقبل البقاء تحت المظلة الروسية مقابل دعم يتمثل بحزمة من الحوافز المادية الضخمة. وعمدت الحكومة الأوكرانية من جهتها إلى تصعيد حملتها ضد المحتجّين، ولم تتردد في استخدام القوة المفرطة ضدهم مطلع هذا الأسبوع فقتلت عدداً منهم. وكانت تعابير الغضب وردود الأفعال الدولية والمحلية على هذه الحملة الظالمة فورية وقوية. ومع ازدياد عزلة الزعيم الأوكراني وفقده للدعم السياسي حتى من بعض أعضاء حزبه، بدأت تلين قناته مقترحاً التوقف عن الدوران في فلك الروس والتنازل عن بعض سلطاته والدعوة إلى انتخابات جديدة.
وكان من الواضح أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحدّ. وعلى رغم الطقس الشتوي العاصف الذي واجهه المتظاهرون في ميدان الاستقلال، فقد قرروا ألا يثقوا بعد الآن بوعود الحكومة، وقالوا جهاراً نهاراً إنهم لن يعودوا إلى بيوتهم ما لم يروا ويلمسوا النتائج المحسوسة لنضالهم. وكانت الحكومة تغيّر مواقفها بين الحين والآخر في الماضي، وها هي تفعل الآن نفس الشيء، وهذا ما يفسّر تصلّب مواقف المتظاهرين والتزامهم بالبقاء في الميدان.
ولكن، مع بقاء الوضع المتأزّم على ما هو عليه، يمكنني أن أتخيل مدى ابتهاج كبار السن من الأوكرانيين وهم يرون أبناءهم الشبّان ينجحون في تحدّي خطط «بوتين الروسي» للنيل من بلادهم. ونظراً لأنهم عانوا مرارة الظلم والاضطهاد قبل عقود طويلة، فإن هذا النصر الذي يحققه أبناؤهم المتظاهرون وعلى رغم عدم اكتماله، إلا أنهم يشعرون بأنهم استعادوا عظمتهم وكرامتهم. (وكان مما أسعدني شخصياً أن أسمع الشهر الماضي أن الألوف من المتظاهرين الأوكرانيين المعتصمين في ميدان الاستقلال كانوا يشاهدون بحماسة بالغة فيلم الميدان المرشح للفوز بالأوسكار ويدور موضوعه حول
ثورة المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة. والفيلم من تأليف وإخراج جيهان نجيم).
وأنا لست ممن يتابعون هذه القصة الدرامية على النحو الذي تعالجها به وسائل الإعلام، بل إنني أعايشها من خلال رؤى واقعية يقصّها عليّ أصدقائي الأميركيون من ذوي الأصول الأوكرانية. وكما هي حال جيلي أنا من الأميركيين ذوي الأصل اللبناني، فقد ولد هؤلاء أيضاً في أميركا من آباء أوكرانيين مهاجرين. وترعرعوا وهم يستمعون لقصص المعاناة التي يعيشها وطنهم الأصلي. وخلال فترة الحكم السوفييتي لأوكرانيا، ما كانوا يحلمون بشيء أكثر من رؤية وطنهم وهو ينعم بالحرية.
وكما هي حال أطفال كل المهاجرين، فقد عانى الأميركيون ذوو الأصول الأوكرانية من مشاكل الانتماء والهويّة والوفاء لوطنهم. فكيف يمكنهم أن يصبحوا أميركيين في الوقت الذي يحملون فيه مشاعر الانتماء لوطنهم الأصلي وولاءهم لإرثهم الثقافي والتاريخي؟. وقد آثر آباؤهم إقامة المؤسسات التي تضمن بقاءهم على تواصل ذهني وروحي مع المجتمع والثقافة الأوكرانية. وكانوا ينضمون إلى المنظمات التي تكفلت بإيصال أصواتهم واهتماماتهم إلى العالم باعتبارهم أميركيين ومن مواطني الولايات المتحدة ولكنّهم ينتمون إلى أوكرانيا.
وكنت أواظب على حضور الفعاليات والنشاطات والاجتماعات السياسية التي ينظمونها. واستخلصت من ذلك أنهم مجتمع يتصف بقوة التلاحم والترابط. وأتذكر علامات الفخر الذي شعروا به عندما تمكنوا من إقناع «الهيئة الديمقراطية الوطنية» والرئيس أوباما بأن يعلنوا رسمياً عن إدانة أعمال الإبادة والتطهير العرقي والمجاعة التي فرضها السوفييت على الشعب الأوكراني في أعوام عقد الثلاثينيات. وقد تابعت نشاطاتهم في هذه الفعاليات خلال الأشهر القليلة الماضية حين سخروا إمكاناتهم وعلمهم وعلاقاتهم المؤثرة لخدمة قضيتهم المتمثلة في تحرير أوكرانيا. وكان كل ما يطالب به هؤلاء هو إخراج بلدهم ووطن آبائهم وأجدادهم من سيطرة روسيا.
ونظراً لأن القيم التي يتحدثون عنها ذات قيمة جوهرية سامية، ولأن القصة التي يرددونها بهذه الضخامة، فإن الشعب الأوكراني يستحق أن يحظى بكافة أوجه الدعم والمساندة. وهذا الكفاح الذي يخوضه سوف يحقق له النصر المؤزّر لسبب بسيط هو أنه يمثل ثورة ذات أهداف مشروعة.
(الاتحاد)