قضايا وآراء

العمامة التي خانت المعنى: في محاسبة النخبة الدينية المتحالفة مع نظام الأسد

كرم خليل
"المعضلة ليست في الدين، بل في تسييسه وتقولِبِه على قياس المستبد"
"المعضلة ليست في الدين، بل في تسييسه وتقولِبِه على قياس المستبد"
في لحظات الانهيار الأخلاقي الكبرى لا تُطلق البنادق وحدها النار؛ تُطلقها أيضا الكلمات حين تُلبَّس ثوب القداسة. تلك كانت إحدى مآسي السوريين: أن فئة من رجال الدين ارتضت أن تتحول من ضميرٍ ناقدٍ للسلطة إلى جهازٍ من أجهزتها، يمدّ لها رخصة أخلاقية لإراقة الدم تحت عناوين "درء الفتنة" و"طاعة ولي الأمر" و"حفظ الجماعة". هكذا تكلمت المنابر فيما كانت الشوارع تمتلئ بشبابٍ يهتفون للحرية والكرامة، وهكذا تحوّلت النصوص إلى عصيٍّ تُهوى على الرؤوس.

ليست القضية هنا سجالا تقنيا في الفقه، بل سؤالا في الضمير العام: ماذا يعني أن تُستدعى العمامة لتجريد الضحية من إنسانيته، وأن يُمسح عن المقتول اسمه ليغدو "مخرّبا"، وأن تُستعار آيات السكينة لتسويغ سعار القبضة الأمنية؟ لقد رأينا -جهارا نهارا- مَن صَمَت، ومن عارض، ومن صار ذراعا دينية تضرب باسم السلطة. والعدالة تقتضي التفريق بينهم:

- فئة التحالف العلني مع نظام الأسد: هي التي تولّت التسويق للاعتقال والقتل باعتباره "حفظا للأمن" و"حماية للوطن"، وأسبغت على الدم شرعية لغوية ودينية. في هذه الفئة أمثلة صارخة يعرفها السوريون: أسماءٌ اعتلت المنابر والشاشات؛ من مفتي السلطة أحمد بدر الدين حسون الذي لُقّب شعبيا بـ"مفتي البراميل"، إلى وزراء أوقاف ومسؤولين دينيين جعلوا مؤسساتهم منصّات للتعبئة، مرورا بخطاب ديني تَبنّى سردية أجهزة الأمن حرفا بحرف. هؤلاء ليسوا "وسطاء روحانيين" بين الإنسان وربه؛ إنهم جزء عضوي من منظومة الحكم، وبالتالي جزء من المسؤولية السياسية والأخلاقية والجنائية عن نتائج هذا الخطاب.

الدولة التي نريدها اليوم ليست دولة ضدّ الدين، بل دولة تحمي حرية الدين من استبداد السلطة ومن استبداد "رجال السلطة الدينية"، دولةٌ مدنية قانونية، تُنظّم المجال العام بالقانون لا بالفتوى، وتُبقي المنابر لرسالتها الروحية والأخلاقية لا لتعبئة الأجهزة

- فئة الصمت والحياد: لم تبصم للنظام، ولم تضع كتفها تحت آلة القمع؛ يُحفظ لها أنها لم تَزِد الزيت على النار. لا يطالب العدل من كل أحد بطولة أسطورية؛ لكن الصمت أيضا ليس فضيلة مطلقة. هذه الفئة مطالَبة اليوم بأن تعلن أين تقف من الدولة الحقوقية الجديدة، وأن تُسهم في تضميد ما مزّقه الخوف.

- فئة المعارضة العلنية: وهي التي قالت "لا" من المنابر أو من المنافي، ودفعت أثمانا شخصية. هذه نواةٌ دينية ضرورية لثقافةٍ تُعيد وصل الدين بقيمه العليا: كرامة الإنسان وحرمة الدم والعدل والصدق.

- أما أخطر ظاهرة، فهي ما يمكن تسميته بـثقافة "التكويع": من بدّل الجهة التي يتزلف لها دون أن يبدّل جوهره، بالأمس تملّق السلطة، واليوم يتملّق الثورة؛ لا لأن ميزانه أخلاقي تغيّر، بل لأن وجهة الريح تبدّلت. ذلك مأزقٌ في الشخصية لا في القناعة؛ وتركه يسرّب نفسه إلى مؤسسات الدولة الجديدة بمثابة زرع ألغامٍ في أساس البناء.

من فقه الطاعة إلى فقه الدولة المدنية

المعضلة ليست في الدين، بل في تسييسه وتقولِبِه على قياس المستبد. لقد جرى تسخير مفاهيم مثل "طاعة ولي الأمر"، و"سد الذرائع"، و"درء الفتنة" لتفريغ النصوص من مقصدها الأعلى: حفظ النفس والعدل وصون الكرامة؛ حين يُختزل الدين في شرطة أخلاقية تحرس الحاكم، نفقد المعنى ونُبقي على القشرة.

الدولة التي نريدها اليوم ليست دولة ضدّ الدين، بل دولة تحمي حرية الدين من استبداد السلطة ومن استبداد "رجال السلطة الدينية"، دولةٌ مدنية قانونية، تُنظّم المجال العام بالقانون لا بالفتوى، وتُبقي المنابر لرسالتها الروحية والأخلاقية لا لتعبئة الأجهزة. هذا هو التحول من "فقه الطاعة" إلى فقه المواطنة: لا قداسة في السياسة، ولا حصانة لخطابٍ يشرعن القتل.

مسؤولية الخطاب الديني المتحالف مع العنف

حين تُمنح الإعدامات شرعية كلامية، يصبح الرصاص أيسر إطلاقا، وحين تُمسَخ الكرامة إلى ملف أمني، تصير البيوت مباحة، والأمهات أرقاما في قوائم الانتظار. إن المسؤولية هنا مزدوجة: مسؤوليةُ الفاعل المباشر الذي ضغط الزناد، ومسؤوليةُ المُمَنهِج الذي سوّغ وجمّل وأخفى الحقيقة بلغة فقهية وسياسية مغشوشة. ولذلك، فالمحاسبة ليست ثأرا، بل استعادةٌ للتوازن الأخلاقي.

ومَن يظنّ أن الزمن كفيل بغسل الذاكرة يخطئ في فهم وظيفة الذاكرة العامة: هي لا تنتقم، بل تُسجّل، وقوائم العار ليست دعوة للفوضى، بل أرشيفٌ أخلاقيٌ علني يحفظ للضحايا أسماءهم، ويُعرّي الخطابات التي زوّرت الحقيقة، ويمنع إعادة تدويرها ببدلاتٍ جديدة.

خريطة طريق للعدالة والاقتلاع الهادئ لسلطة العمامة السياسية

- عدالة انتقالية صريحة: تحقيقات قضائية مستقلة في كل خطابٍ ديني حرّض على العنف أو سوّغ جرائم واضحـة، مع مساءلةٍ مدنية ومهنية: العزل من المواقع العامة، ومنع تولّي المناصب الدينية الرسمية، وردّ الامتيازات التي مُنحت باسم الدين للقيام بوظائف سياسية.

- فصل مؤسسي بين الدين والسلطة: تحويل وزارة الأوقاف من جهاز تعبئةٍ إلى إدارة خدماتٍ دينية وخيرية تحت رقابة البرلمان والقضاء، ومنع توظيف المنابر للدعاية السياسية أيا كان الحاكم.

- ميثاق شرف ديني: يُصاغ ويوقّع من هيئات العلماء المستقلين، يجرّم شرعنة العنف ضد المدنيين، ويؤكد حرمة الدم، وحق الاعتراض السلمي، واستقلال الدعوة عن أجهزة الحكم.

- إصلاح التعليم والخطاب: مراجعة المناهج والمعاهد الشرعية لتصحيح انزياحات "فقه الطاعة" نحو فقه الحقوق، وإدخال مساقات في فلسفة الأخلاق، والتفكير النقدي، ومقاربات مقاصدية تُعيد مركزية الإنسان.

كان "رجال النفاق" -بعمائم وثيابٍ دينية- خنجرها الأكثر سمّا لأنهم دسّوا السم في لغة الرحمة. لذلك، فإن تعريتهم ومحاسبتهم واجبٌ تأسيسي لا بدونه لا قيام لعقدٍ جديد ولا لبلدٍ يستحق الدم الذي دُفع في سبيله

- إعادة بناء الحقل الديني: تمكين القيادات التي قاومت القتل، ودعم شبكات الأئمة والوعّاظ الذين اختاروا لغة السكينة والحق، وتقديم نماذج تُثبت أن الدين حليف الحرية لا خصمها.

أحمد حسون وآخرون.. بين الاسم العام والنموذج الرمز

ليس المقصود مطاردة أشخاصٍ بأعيانهم بقدر ما هو محاكمة نموذجٍ كامل: النموذج الذي يلبس العمامة ليؤدّي وظيفة السياسي. ومع ذلك، فإن الرموز العلنية التي قادت هذا الخطاب لا يمكن تبرئتها باسم المجاز؛ من اعتلى منبرا رسميّا ليمنح القمع لغة مقدسة، أو هدّد العالم بخطابٍ يُسوّغ العنف، أو حوّل الوزارات الدينية إلى أدوات تبييض؛ يتحمّل مسؤولية مباشرة في جرح الاجتماع السوري. إنهم -بالمعنى الأخلاقي والسياسي- ألدّ أعداء الدولة التي نريد: دولة الحق والقانون.

العقد الاجتماعي الجديد: دينٌ مُصان، دولةٌ مُصانة

الدولة التي تنبع من السوريين جميعا لا تحتاج إلى كهنوت سياسي، بل إلى قانونٍ أعلى من الجميع: من الحاكم إلى صاحب العمامة. هذا العقد لا يلغي الدين ولا يخاصمه؛ إنما يحميه من الابتزاز السياسي، ويضمن للناس حقّهم في أن يؤمنوا ويعترضوا ويعيشوا بلا خوف. في هذا العقد، لا عودة لرجال الدين كرجال سلطة؛ يعودون رجالَ معنى، ومعيارَ ضمير، ومصدرا للسلم الأهلي، لا أداة للحشد والاصطفاف والتخوين.

ليست الثورة السورية مجرد احتجاجٍ على أسعارٍ أو وجوه؛ هي ثورة على مفهوم الاستباحة: استباحة الجسد والبيت واللغة. وقد كان "رجال النفاق" -بعمائم وثيابٍ دينية- خنجرها الأكثر سمّا لأنهم دسّوا السم في لغة الرحمة. لذلك، فإن تعريتهم ومحاسبتهم واجبٌ تأسيسي لا بدونه لا قيام لعقدٍ جديد ولا لبلدٍ يستحق الدم الذي دُفع في سبيله.

التاريخ لا ينسى، لكنه أيضا لا يكتفي بالتذكّر. إنه يطلب من الأحياء أن يُقيموا العدل كي تستقيم الذاكرة. فلنكتب، إذن، السطر الفاصل: عمامةٌ للمعنى.. لا عمامةٌ للرصاص؛ ودولةٌ لا تُشرعن القتل، ولا تستعير للبطش فتوى.
التعليقات (0)

خبر عاجل