بدو أن هَوس القوة الذي بات يَحكُم السياسة الصهيونية في فلسطين والمنطقة العربية سينقلب على أصحابه إن عاجلا أو آجلا. منذ أكثر من سنتين والحديث جار عن حسم المعركة مع “حماس” وإعادة جميع الأسرى بالقوة من دون جدوى رغم استخدام كافة أنواع الأسلحة والاستعانة بأكبر القوى العسكرية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومنذ أيام قليلة أعاد المطلوب للجنائية الدولية “نتن ياهو” طرح تصوّره لإنهاء الحرب في قطاع
غزة من خلال نقاط خمس: نزع سلاح المقاومة، إعادة جميع الأسرى، تجريد غزة من السلاح، السيطرة الأمنية على القطاع، ثم إنشاء إدارة مدنية لا تتبع حماس ولا السلطة الفلسطينية… وفي الوقت ذاته أعاد التذكير بأنه في “مهمة روحانية وتاريخية لإقامة إسرائيل الكبرى” التي تضمّ مجموعا أو أجزاء من أراضي 10 دول عربية… فما هي الدَّلالات المستقبلية لمثل هذه التصريحات؟ وهل يُعَدُّ بيان 31 دولة عربية وإسلامية الجمعة16 أغسطس الجاري مؤشرا على بداية تحوُّل استراتيجي في المنطقة وسقوط “نتن ياهو”؟
إن أهم ما تدل عليه هذه التصريحات من الجانب الإسرائيلي هو التخبُّط الواضح في الموقف بعد الوصول إلى استنفاد كافة وسائل القوة في مواجهة المقاومة في غزة والمحيط المسانِد لها. لم تَحسم الحرب أي من الجبهات إلى حد الآن رغم الادِّعاء خلاف ذلك.
الداخل الغزي مع كل الدمار الشامل الذي أحدثته الحرب مازال يقاوم بما لديه من إمكانات ولم يستسلم
الداخل الغزي مع كل الدمار الشامل الذي أحدثته الحرب مازال يقاوم بما لديه من إمكانات ولم يستسلم، جبهة
اليمن لم تتوقف عن استهداف عمق الكيان بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة، والضفة الغربية مازالت تقاوم بكافة الوسائل رغم الحصار المطبق عليها، وحزب الله في لبنان رغم الضربات الموجعة التي تلقاها مازال يُصرّ على عدم نزع سلاحه، وإيران التي اُستهدفت من قبل العدوان الأمريكي الصهيوني لم ترفع الراية البيضاء وهي تتعافى تدريجيًّا من خسائرها الأخيرة، وسوريا التي ظن
الاحتلال الصهيوني أنها باتت لقمة سائغة تفتح له الطريق نحو كردستان العراق وآسيا الوسطى بدأت الأوضاع الداخلية بها تتغيّر نحو العودة إلي الموقف التقليدي السوري المعادي للكيان الصهيوني، وباستثناء جبهة العراق التي غرقت في صعوبات داخلية، لم تتمكّن الحرب الصهيونية الأخيرة من إيجاد الشروط الملائمة لِما تعتبره “الشرق الأوسط الجديد” كما تريده تحت هيمنتها.
وتأتي التصريحات الأخيرة لـ”نتن ياهو” بكونه في “مهمة روحية” لإنشاء “إسرائيل الكبرى” لتؤكد هذا الاتجاه وتُبيِّن وهم تحقيق المشروع الصهيوني في المنطقة؛ إذ في اللحظة التي بدا وكأن جميع الدول العربية والإسلامية المحيطة بالكيان أو القريبة منه مُندَرِجة ضمن مشروع التطبيع، أصدرت31 دولة عربية وإسلامية، إضافة إلى الأمناء العامّين لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، بيانا رافضا للسياسات الصهيونية. وتكفي قراءة الفقرة المتعلقة بقطاع غزة ضمن هذا البيان لتعطينا إشارة عن جود مستقبل مختلف عن ذلك الذي تَصوَّره الكيان أو الإدارة الأمريكية في المنطقة.
جاء في البيان: “التأكيد على أن قطاع غزة جزءٌ لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة، وضرورة تولي دولة فلسطين مسؤوليات الحكم في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بدعم عربي ودولي، في إطار البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وسياسة نظام واحد وقانون واحد وسلاح شرعي واحد”، وهي فقرة قوية لم يسبق أن تَضمَّنتها بياناتُ القمم العربية السابقة بهذا الوضوح، خاصة فيما يتعلق بعدم نزع سلاح فلسطين، بما يُشير إلى أن التّمادي في استخدام القوَّة العسكرية والاستناد إليها لِفرض الأمر الواقع من وجهة نظر واحدة لن يستمرَّ طويلا.
وكما لم تنجح هذه الصهيونية في القضاء على المقاومة في فلسطين وفي المنطقة، لن تنجح مستقبلا في مشروعها التطبيعي القسري، ذلك أن “نتن ياهو” بقدر ما وضع نفسه مع فريقه المتطرف ضمن الحسم المطلق وربح كل شيء، سيجد نفسه في آخر المطاف ضمن الفشل المطلق وخسارة كل شيء… وتلك الأيام نُداولها بين الناس.
الشروق الجزائرية