في سجون
مصر، حيث يُكمّم الصوت وتُوأد
الحكايات قبل أن تولد، تتحول الزنازين إلى قبور ضيقة، تبتلع أنفاس الأحياء وتُمعن
في سحق إنسانيتهم، حبست جدران
السجن آلاف المظلومين لكن ألمهم جاوز حدود الجدران الباردة،
وتسلل خارج القضبان، وتسرب إلى قلوب شعراء أحرار، وأيقظ في صدور فنانين صادقين نارا
لا تخمد، فأعادوا رسمه بالكلمات والصور، كصوت لأولئك الذين صودرت أصواتهم، ومرآة
تعكس المسكوت عنه، وكمنبر يرد الاعتبار لأولئك الذين حُرموا حتى من البوح بآلامهم.
مسلسل زنزانة 65 لم يكن مشروعا دراميا
عابرا، بل هو استدعاء للذاكرة، استحضار لما يريده النظام طيّ النسيان، وإعادة
تشكيل للوعي الجمعي حول قضية
المعتقلين، ليس بوصفهم مجرد أرقام، بل كأفراد لهم
حيواتهم، أحلامهم، عائلاتهم، ومستقبلهم الذي صودر. إنه عمل يُعيد رسم العلاقة بين
الفن والواقع، بين
الدراما والحقوق، وبين الإبداع والمقاومة.
كيف نحكي
الواقع في عمل درامي
في البداية، كان هناك سؤال أساسي يلحّ
علينا كصنّاع لهذا العمل: كيف يمكن للفن أن يوثق معاناة المعتقلين دون أن يكون
مجرد استنساخ لقصص معروفة؟ كيف ننتج عملا فنيا قادرا على إيصال حجم الألم دون أن
يُفقد المشاهد القدرة على الأمل؟
مسلسل زنزانة 65 لم يكن مشروعا دراميا عابرا، بل هو استدعاء للذاكرة، استحضار لما يريده النظام طيّ النسيان، وإعادة تشكيل للوعي الجمعي حول قضية المعتقلين، ليس بوصفهم مجرد أرقام، بل كأفراد لهم حيواتهم، أحلامهم، عائلاتهم، ومستقبلهم الذي صودر. إنه عمل يُعيد رسم العلاقة بين الفن والواقع، بين الدراما والحقوق، وبين الإبداع والمقاومة
الإجابة كانت في قصص الناجين وأولئك الذين
ما زالوا في غياهب السجون الظالمة، في التقارير الحقوقية التي صغتها مرارا وفي
الشكاوى التي تقدمنا بها وطرقنا بها أبواب المؤسسات الدولية لسنوات طوال، في
شهادات المحامين الذين وقفوا أمام القضاة ليشهدوا على محاكمات هزلية، وفي دموع
أمهات لم يعد لهن من أمل سوى انتظار لحظة حرية قد لا تأتي.
لكن التوثيق وحده لم يكن كافيا، فالعمل
الفني، حتى وإن كان يحمل رسالة حقوقية، يجب أن يحافظ على قوته الدرامية، على عنصر
التشويق، على البناء السردي الذي يجعل المشاهد مرتبطا بشخصياته، لا كمجرد متفرج
متعاطف، بل كمن يعيش المأساة معهم، يختنق حين يُغلق عليهم باب الزنزانة، ويرى
العالم بأعينهم وهم معلقون في أقبية التعذيب.
وهكذا، لم تكن زنزانة 65 مجرد قصة متخيلة،
بل هي توليفة من مئات القصص الحقيقية، أُعيدت صياغتها لتناسب العمل الدرامي دون أن
تُفقدها واقعيتها. الشخصيات التي ظهرت على الشاشة ليست مجرد أسماء في السيناريو،
بل هي أصوات تمثل أولئك الذين لم تُتح لهم الفرصة للحديث عن أنفسهم.
الفن كأداة
مقاومة
عبر التاريخ، أدركت الأنظمة الاستبدادية
أن الفن أخطر من أي منشور سياسي، وأن السينما والتلفزيون قد تكون أكثر تأثيرا من
آلاف المقالات، لهذا، سعت هذه الأنظمة دائما إلى السيطرة على الدراما، لجعلها أداة
للتزييف بدلا من أن تكون مساحة للحقيقة.
لكن في المقابل، كان هناك دائما من يقاوم،
من يُدرك أن الفن ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو معركة وعي، وطريقة لفتح العيون
التي أُرغمت على الإغماض.
في السياق المصري، لطالما كانت السينما
والتلفزيون مساحات محكومة برقابة صارمة، لا تسمح إلا بما يتوافق مع الرواية
الرسمية. ومع ذلك، في فترات تاريخية معينة، تمكنت أعمال محددة من اختراق هذا
الجدار، من "البريء" إلى
"ضد الحكومة"، ومن "إحنا بتوع الأتوبيس" إلى "ليالي
الحلمية"، وهي أعمال نجحت في كشف القمع وإثارة الأسئلة لدى المشاهدين.
اليوم، ومع تصاعد هيمنة النظام على
الإعلام، باتت المساحة المتاحة لمثل هذه الأعمال أضيق من أي وقت مضى، مما يجعل أي
محاولة لكسر هذا الاحتكار مخاطرة بحد ذاتها. زنزانة 65 يدخل في هذه المواجهة، ليس
كمجرد عمل درامي، بل كجزء من معركة أكبر تهدف إلى استعادة دور الفن في مقاومة
القمع.
قلب المفاهيم..
من الحقوق إلى المنح
واحدة من أكبر الجرائم التي ارتكبتها
الأنظمة القمعية ليست فقط قمعها للمواطن، بل قدرتها على إقناعه بأنه ليس صاحب حق
في الأساس.
لقد استطاعت أجهزة الدولة الإعلامية عبر
عقود من التلاعب بالوعي الجمعي للجماهير المصرية بمختلف طبقاتها، حتى نجحت بشكل
كبير في أن تقلب مفهوم الحقوق، فتجعل الطعام والسكن والأمان بمثابة "هبات"
يمنحها الحاكم، لا حقوقا أساسية مكتسبة لكل فرد. بهذه الطريقة، تحول الإنسان من
كائن مستقل صاحب إرادة إلى متلق للمِنح، يعيش في حالة دائمة من الخضوع والامتنان.
وفي السجون، حيث يقبع عشرات الآلاف من
الذين لم يقبلوا هذا المذهب الفكري المفروض من النظام، يُفرض عليهم هذا المنطق
بأبشع أشكاله: الطعام السيئ، العلاج الذي يُستخدم كأداة عقاب، الزيارات التي تُمنح
أو تُمنع وفقا لهوى الباشا مأمور السجن، يصبح البقاء على قيد الحياة مكافأة،
ويُجبر المعتقل على الشعور بأن أي معاملة "غير مهينة" هي تفضل من
السجان، لا جزءا من حقوقه الإنسانية.
ولكن كيف للفن أن يلتقط هذه الحقيقة بكل
تجلياتها؟ كيف لمسلسل، أو حتى عشرة، أن يعيدوا تشكيل وعي المواطن بعلاقته مع
السلطة، أن يكسروا الروايات الرسمية ويعيدوا تعريف المفاهيم التي صيغت بعناية
لتكريس الخضوع؟ هنا يكمن التحدي الأكبر أمام هذا اللون من الفنون، حيث لا يكفي أن
يُروى الواقع، بل يجب أن يُعاد تشكيله، أن يُصاغ بعمق يوقظ الوعي، ويهزّ اليقين
الزائف، ويمنح الصمت صوتا لا يمكن إسكاته.
لذلك، في زنزانة 65، لم يكن الهدف مجرد
رواية الأحداث، بل تفكيك المسلّمات وإعادة تشكيل الأسئلة التي غالبا ما تُترك بلا
إجابة. ماذا يعني أن يتحول الإنسان إلى رقم خلف القضبان؟ كيف يصبح فقدان الكرامة
أمرا اعتياديا؟ لماذا يُسلب البعض حقهم في الوجود لمجرد اختلافهم؟ لم نرد أن يكون
المشاهد متلقيا سلبيا، بل شريكا في طرح التساؤلات التي تهزّ اليقين الزائف، وتجبر
العقل على مواجهة الحقيقة، مهما كانت قاسية.
من المظلومية
إلى الفعل
على مدار سنوات، اعتمدت المعارضة المصرية
على خطاب المظلومية، خطاب التوثيق والبكاء على الأطلال، دون تقديم بديل حقيقي
للناس. لكن المظلومية وحدها لا تصنع
التغيير، بل قد تُستخدم أحيانا من الأنظمة
لترسيخ العجز، وقتل الأمل وتصدير اليأس لكل حالم بالتغيير، لجعل الناس يشعرون أن
المقاومة مستحيلة.
الحرية ليست منحة تنتظرها الشعوب، بل وعي يتشكل عبر الأجيال. وكلما ترسخت قيمها في النفوس، اقتربت لحظة انتزاعها. لا أحد يستطيع تحديد موعد الثورة، ولا يمكن فرض التغيير بالقوة، بل هو مسار طويل تنضج فيه المجتمعات، حتى تدرك، دون تردد، أن كرامتها ليست ترفا، وأن انتزاع الحرية ليس خيارا، بل ضرورة
وكذلك لسنوات اختُزلت مواجهة الاستبداد
بالكشف عن جرائمه وفضح ممارساته، لكننا أهملنا المعركة الأهم: بناء الإنسان الحر.
فالقمع لا يُهزم فقط بفضحه، بل بزرع نقيضه في وجدان الشعوب، بإرساء قيم الحرية
والكرامة لا كشعارات سياسية عابرة، بل كثقافة تتغلغل في الوعي الجمعي، كمبادئ غير
قابلة للمساومة.
إن الحرية ليست منحة تنتظرها الشعوب، بل
وعي يتشكل عبر الأجيال. وكلما ترسخت قيمها في النفوس، اقتربت لحظة انتزاعها. لا
أحد يستطيع تحديد موعد الثورة، ولا يمكن فرض التغيير بالقوة، بل هو مسار طويل تنضج
فيه المجتمعات، حتى تدرك، دون تردد، أن كرامتها ليست ترفا، وأن انتزاع الحرية ليس
خيارا، بل ضرورة.
هل تنجح
الدراما في إحداث التغيير؟
قد يسأل البعض: هل يمكن لمسلسل واحد أن
يغير الواقع؟ هل يمكن للدراما أن تؤثر في وعي الناس وهم غارقون في مشكلاتهم
اليومية؟
التاريخ يخبرنا أن الإجابة هي نعم؛
الدراما قادرة على تشكيل الوعي، على إحداث هزات في وجدان الجماهير، على جعلهم يرون
الحقيقة التي حُرموا منها لسنوات، لكن علينا أن نتحلى بالأمل والمثابرة والمواصلة،
وأن نُسقط رهان الأنظمة المستبدة بأننا سنيأس أو ننسى.
لذلك يجب أن يكون زنزانة 65 خطوة على طريق
طويل، قد لا يغير المسلسل مصيرنا، لكنه قد يزرع بذرة، قد يفتح نافذة، قد يجعل
إنسانا واحدا يسأل سؤالا لم يكن ليطرحه من قبل. وحين تبدأ الأسئلة، يبدأ التغيير.