"تفقدُ
قيمتَها الأشياء مع الوقتِ، التكرار الرتيبِ، مع ملاحقةِ كلّ احتمال للتمسّكِ، وسحقِ
كلّ محاولة للاستعادةِ.. ولو في المخيّلة!
يفقدُ
جدواهُ سعي العدمِ ذاكَ، بلا يد على الضفّةِ الأُخرى تستحثُّ السعيَ، بلا أعين
تتلهّفُ الدنوّ، وبلا ضمّة يُرجِفُها بردُ الانتظار.
ومحاولاتُ
التخليقِ الافتراضيّ أذاها محقّقٌ.. لن تتطوّرَ (نموّا وذبولا).. للخيالِ حدوده هنا،
لن تبقى (ينهشُها احتياجٌ لا يشبعُ).. للزهدِ حدوده هنا، ولن تموتَ (ستقتُلنا
رفاتُها بداخلِنا؛ تبعا).. للتخلّي -أيضا- حدوده هنا.
ومظنّةُ
اعتيادُ الرحيلِ، ثبتُ خطؤها بالتجربةِ.. كأنّها الأولى كلّ مرّة.. كأنّه الوحيدُ
كلّ راحل".
* * *
ليست السيطرة على الجسد (امتلاكه؟) هي أخطر آثار السجن، ولعلّ غياب إدراكِ هذا ومظنّة أنّ الجسد هو كلّ حيّز سيطرته، ما يدفع البعض للتخلّص من هذا الجسد تخليصا له من هذا الحيز: سأهزمه وإن لم أنتصر.
فكّرتُ في
الانتحار كثيرا وأنا
معتقل، ووقفتُ غيرَ مرّة على حافة العدم، لكنّي لم أقفز؛ بدا
التراجع عنه مناقضا لطبائع الأمور في حال كهذا (السجنُ يقتل، والسجّانُ قاتلٌ
بالضرورة)، لا علاقة لهذا بإيمانك ولا صلابتك، لعلّه الصبر أو الوعي بدرجة ما (لستُ
متأكّدا).
لكنّي شاهدتُ
"أ س" بعد أن صفعه مخبر العنبر، في معتقل طرة، وقد قطع شرايين معصمه
وابتلع شريطا دوائيا فور إعادته للزنزانة، لعجزه عن تحمّل الإهانة أو ردّها،
وقبلها بسنين كنتُ في ذات عربة القطار/الزنزانة مع سجين لا أعرفه وقد قطع خصيتيه
أمامنا، بعد أن عذّبه المخبرون وأهانوه وهو مقيّد، وألقاها في وجههم ثم سقط وسط
بركة دمه.
ليست السيطرة على
الجسد (امتلاكه؟) هي أخطر آثار
السجن، ولعلّ غياب إدراكِ هذا ومظنّة أنّ الجسد هو
كلّ حيّز سيطرته، ما يدفع البعض للتخلّص من هذا الجسد تخليصا له من هذا الحيز:
سأهزمه وإن لم أنتصر، أو كما قلتُ لنفسي حينها: "سأخرج من هنا ولو جثمانا".
ليس قنوطا بالضرورة،
إنّما رفضٌ للانحسار القسريّ في "بين" لا يليق، "إذا كانت هذه هي
الحياة، فلن أستمرّ". اضطرار في غياب الاختيارات بيد القاتل/السجّان، لا
يفزعني وأنا أعيد النظر إليه الآن، كما لا أشفق على نفسي فيه حتى، فقط أفكّر:
لماذا لم أنتحر رغم كلّ ما جرى؟ لماذا لا ينتحر المعتقلون؟
* * *
"فالتعذيبُ
إذن يؤدي وظيفة قانونيّة وسياسيّة، إنّه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد
جرحها لحظة" (ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة).
في أولى المرّات تركوني
بعد
تعذيب لثلاثة أيّام عندما بكيت، كان هذا هو الغرض، والتحدّي في المقابل،
لكنّي لم أصمد إلا لثلاثة أيّام ثم خذلني ذهني وجسدي، أو لعلّي منحتهم الأمر لا
واعيا لتنتهي المعاناة؛ لم أسامح نفسي على هذا الخروج، رغم فعل تمرّد قمتُ به ردّا
لإهانة، أو ربّما لأمنح نفسي العذر، لكن ظللتُ أعتبره خروجا مذلّا لسنين.
في الثانية، بعد
عودتي من فلسطين مطلع 2009م، وتحديدا عند وصولي سجن ترحيلات الخليفة في القاهرة،
وشوشَ ضابط يرافق الترحيلة مأمور السجن وهو يناوله ملفّي، فقال المأمور"إنت
جيت يا.. أمّك" واندفع سيل وسخ هادر عليّ.
علّقوني خلفيّا
في سقف حديديّ، وبدؤوا حفل تعذيب. تكرّر في كلّ محطّة وقفتُ فيها من رفح وصولا
إلى سجن الأبعاديّة، على اختلاف أماكن الاحتجاز وجهات تبعيّتها، وكان الغرضُ أيضا
أن أبكي وأطلب العفو (هكذا قال مأمور قسم الترحيلات، الذي شارك بنفسه في
التعذيب).
أقنعتُ نفسي أنّها لحظة طارئة، ولم أدرك أن الطارئ ممتدٌّ بطول العمر، سوى حين التفتُّ لمرور 18 سنة منذئذ، ولم يعبر الطارئ أو ينتهِ (الحياة هي تلك اللحظة الطارئة/القاسية، على ما يبدو)، لكنّ الذهن لا يدركُ هذا ولا يستوعبه بمجرّد التفكير فيه، فقد انحشرتُ هناك ولم أخرج بعد، والسجّان (على باب الزنزانة، أو في قصر الحكم)، واحدة من غاياته ألا يخرج أحد من هناك، إلا مقبورا تحت الأرض أو في ذاته.
كان الضربُ مؤلما،
وكُسِرَ كوعي بضربة منه وما زالت به إعاقة. ولم يكن ثمّة حيلة أستخدمها كي لا أبكي
وأصرخ طالبا الرحمة، في الوقت ذاته كنتُ قررتُ بالفعل ألا أكرر ما حدث في التعذيب
السابق: لن أبكي أو أطلب الرحمة ولو متّ معلّقا هكذا، واهتديتُ ساعتئذ لأن أبدل
الصراخ بالشتم والبكاء بالضحك، وفعلتُ كما أردتُ تماما، ظللتُ أضحك وأغني وأشتم
حتى جنّ جنونهم، وفقدوا الأمل فأوقفوا التعذيب وأنزلوني، ثم رموا بي إلى الحجز مكسّر
العظام، حرفيّا، غير قادر حتى على التنفّس من فرط الوجع.
* * *
من هناك بدأ
الخلل يتسلل إلى الـ"System" في نفسي، أو لعلّها كانت لحظة التجلّي لا الحدوث، أقنعتُ
نفسي أنّها لحظة طارئة، ولم أدرك أن الطارئ ممتدٌّ بطول العمر، سوى حين التفتُّ
لمرور 18 سنة منذئذ، ولم يعبر الطارئ أو ينتهِ (الحياة هي تلك اللحظة
الطارئة/القاسية، على ما يبدو)، لكنّ الذهن لا يدركُ هذا ولا يستوعبه بمجرّد
التفكير فيه، فقد انحشرتُ هناك ولم أخرج بعد، والسجّان (على باب الزنزانة، أو في
قصر الحكم)، واحدة من غاياته ألا يخرج أحد من هناك، إلا مقبورا تحت الأرض أو في
ذاته.
* * *
"فادِحة تلكَ اللحظةَ التي ندركُ فيها أننا لم نكن شجعانَ كفاية لنمضي قدما، ولا جبناءَ
كفاية لنرتدّ على أعقابنا.
بئيسٌ ذلكَ
الأملُ الخدّاعُ الذي يتناوبُنا، لا يحضرُ تماما لننفجر.. لا يغيبُ مطلقا لنسقطَ
دفعة واحدة، فقط يستنزِفُنا.. يبعثرُ ذرّات وجودِنا على جانبي المسارِ كأثر عارض.
لم تهيّئنا
-حتى- أسوأُ الكوابيسِ لتلكَ "الماضويّة القسريّة" و"الجنديّة
الاضطرارية في معركةِ الأزلِ"، لم تهيّئنا لـذلك المسخ الذي حاولَ الانسلاخَ
من تاريخِهِ، فانحشرَ في برزخِ البينِ؛ لا دودة ظلّ، ولا فراشة أصبح!".