المؤامرة التي استهدفت القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "
حماس" لم تبدأ بعد فوزها في انتخابات 2006 التاريخية، بل نُفذت على الأرض حتى قبل انسحاب جيش
الاحتلال الإسرائيلي من قطاع
غزة بأكثر من عام ونصف.
كشفت وثائق بريطانية، حصلت عليها "عربي21"، أن
بريطانيا وضعت في أوائل عام 2004، خطة "رباعية المسارات" لمنع حماس من تحقيق أي انتصار في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإجهاض أي مساع لمقاومة الاحتلال.
وأظهرت وثائق رئاسة الحكومة البريطانية، أفرج عنها، أن الثمن الذي دفعته الولايات المتحدة لإسرائيل مقابل سحب جيشها من قطاع غزة، فيما سماه رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل آرئيل شارون خطة فك الارتباط الأحادي، أثار استياء مسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش إلى حد دفع أحدهم إلى الشكوى من أن شارون "عرَّى الأمريكيين".
ففي أوائل عام 2004، بدأت بريطانيا تطبيق خطة، شاركها فيها الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وجاءت تفاصيل الخطة في سياق الإعداد لزيارة رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير للولايات المتحدة ولقائه ببوش في شهر أبريل/نيسان من العام ذاته. وكانت عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن القضايا ذات الأولوية على جدول المباحثات.
وفق الخطة، شُكلت "غرفة عمليات" في رام الله، بالضفة المحتلة مهمتها "جمع المعلومات الاستخباراتية واستخدامها لمنع التهديدات المحتملة". وكان الغرض الأساسي هو قطع كل طرق الدعم لجماعات المقاومة الفلسطينية، خاصة حماس، في الضفة والقطاع، وإجهاض أي جهد يشجع الفلسطينيين على الانخراط في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ودعمها.
وعمل في غرفة عمليات رام الله "ستون ضابطا من مختلف أجهزة الأمن الفلسطينية". وقُسِم الضباط إلى خمس قوى لكل منها مهمة محددة من مهام المواجهة التالية: "الهجمات الانتحارية، وتهريب الأسلحة، التمويل غير القانوني، حمل الأسلحة بالمخالفة للقانون، التحريض"، في إشارة إلى تحريض الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال.
اظهار أخبار متعلقة
ويكشف تقرير أعده فريق استشاري لبلير استعدادا للقائه مع بوش، عن أنه بتخطيط بريطاني، أنشِئت "غرفة عمليات مركزية" مماثلة في غزة شاركت فيها أجهزة الأمن، التي كانت تحت سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي. وتحدث التقرير عن أن تلك الأجهزة كانت "تتطلع إلى أن يؤدي المصريون دورا" في تطبيق الخطة.
لم يقتصر دور البريطانيين على التخطيط فقط، بل ساهموا بـ "مهمة شرطية استشارية"، مولتها آنذاك وزارة التنمية الدولية (التي أدمجت أخيرا في وزارة الخارجية). وتكشف الوثائق أن هذه المهمة بدأت العمل فعليا يوم 12 أبريل/نيسان 2004 أي قبل انسحاب إسرائيل من القطاع بعام ونصف تقريبا بمشاركة "54 سيارة شرطة وفرتها الوزارة".
وحرص البريطانيون على أن يبلغ رئيس وزرائهم الرئيس الأمريكي بسير الخطة وتأكيد أن الغرض منها هو "دعم السلطة الفلسطينية" انطلاقا من أن "تمكين السلطة من السيطرة الفعالة على غزة ما بعد الانسحاب سوف يحول دون تحقيق حماس أي انتصار". ونُصح بلير بأن يبلغ بوش بأن المملكة المتحدة "تسارع الخطى في عملنا الأمني"، وبأن البريطانيين يشجعون "مزيدا من الحوار بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومصر" بشأن الخطة الأمنية لمنع حماس من تحقيق أي فوز.
وبدا أن البريطانيين كانوا راضين عما حققوه على الأرض. ووفق تقاريرهم، فإن الخطة الأمنية بدأت "ترصد رسميا نجاحات أولية" شملت "اكتشاف مخبأين للمتفجرات والأسلحة في بيت لحم وبهما مواد لتجهيز حزام ناسف".
في هذا الوقت، كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى"، التي اندلعت عام 2000 بعد اقتحام شارون، زعيم المعارضة في إسرائيل آنذاك، ساحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال، تتصاعد. وتحت ضغط الانتفاضة وخسائر الاحتلال، سعت بريطانيا والولايات المتحدة إلى تفعيل دور اللجنة الرباعية الدولية، التي كانت قد تشكلت عام 2002 على أمل تسهيل مفاوضات السلام ومساعدة الفلسطينيين على بناء مؤسساتهم استعدادا لدولتهم الموعودة، وفقا لحل الدولتين.
ووفق الوثائق، فإن تطبيق الخطة الأمنية بدأ بعد أن "أبدت الولايات المتحدة لبريطانيا استعدادا" لإعطاء اللجنة الرباعية، التي تضم الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي "دور القائد المسيطر على المساهمة الدولية الهادفة إلى ضمان الدعم في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي".
وكان للأمريكيين السيطرة على مهمة اللجنة الرباعية المختصة بالأمن، ولدى البريطانيين قناعة بأن هذا الدور "ربما يوفر الغطاء البيرقراطي (التنظيمي)" للعمل الأمني على الأرض.
اظهار أخبار متعلقة
ويكشف تقرير شامل أعدته بريطانيا بشأن دور اللجنة الرباعية، عن أن الخطة الأمنية كانت جزءا من تصور "مكون من أربعة مسارات" أوسع لتمكين السلطة الفلسطينية في مواجهة حماس، شمل أيضا الدعم الاقتصادي، ومبادرات الإصلاح والعمل السياسي والتعاون الأمني بين مصر والولايات المتحدة والمملكة المتحدة "في إطار هيكلية لدعم السلطة الفلسطينية".
اقتصاديا، استهدف مشروع البريطانيين الرباعي "تعظيم المعونات ونقلها إلى السلطة الفلسطينية" عبر "صندوق ائتماني لفلسطين" بتمويل من البنك الدولي، ولجنة خاصة تشمل الرباعية الدولية وكندا واليابان والنرويج والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هدفها "بناء القدرات الفلسطينية". غير أن البريطانيين أصروا على أن "تُرهن أي معونات تقدم للسلطة الفلسطينية بـتعزيز الإصلاح".
ووفق المشروع، اقتُرح تشكيل "سبع مجموعات لدعم الإصلاح" تتعامل مع ملفات: "المجتمع المدني، الانتخابات، المحاسبة المالية، إصلاح القضاء وحكم القانون، واقتصاديات السوق، والحكم المحلي، وإصلاح الوزارات والخدمة المدنية".
ركز المسار السياسي على تعزيز دور الرباعية الدولية "كوسيلة للرقابة الدولية (لمسار عملية التسوية) وتحديد طبيعة الإسهام الدولي فيه". وأسند البريطانيون إلى مبعوثي الرباعية مهمة "دراسة مدى الحاجة إلى إجراء أي تغيير (في المسار) أو تعزيزه".
ولقي المسار الأمني اهتمام بريطانيا مع سعي حثيث على أن تضطلع مصر "بدور مهم فعال" إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا. وعرض فريق مستشاري بلير، برئاسة سير نايجل شينولد، مستشار رئيس الوزراء للسياسة الخارجية والدفاع، تصورا "للبناء على العمل الأمني" الذي تباشره بريطانيا على الأرض في غزة والضفة الغربية. وكان هدف هذا التصور هو "بناء شراكة راسخة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومصر لدعم جهد السلطة الفلسطينية في مجال الأمن الجاد على الأرض".
ولم يرهن البريطانيون عملهم على الأرض بتنفيذ هذا التصور على الأرض، وأكدوا للأمريكيين أنهم يواصلون "العمل الثنائي" مع السلطة الفلسطينية بشأن الأمن "بغية إرساء أساس قوي لسيطرة فعالة من جانب السلطة الفلسطينية على غزة".
وبينما كان البريطانيون يرتبون ملفاتهم بشأن عملية السلام قبل قمة بوش وبلير يوم 16 أبريل 2004، فاجأ بوش الأطراف المعنية بالصراع بتنازلات منحها لشارون، الذي أصبح رئيسا للحكومة في إسرائيل، بعد لقائه به في البيت الأبيض. فخلال اللقاء، عرض شارون على بوش خطة فك الارتباط الأحادي مع قطاع غزة بعد تصاعد عدد قتلى جنود جيش الاحتلال الذين كانوا يحرسون مستوطنات يهودية غير شرعية أقيمت بعد احتلال القطاع في حرب يونيو/حزيران عام 1967.
وأبلغ شارون مضيفه بأن الجيش الإسرائيلي سوف ينسحب أيضا من أربع مستوطنات أخرى في شمال الضفة الغربية المحتلة. وأعلن بوش، في المقابل، رفضه الالتزام بقرار الأمم المتحدة بشأن حق الفلسطينيين، الذين هُجروا من ديارهم في عام 1948 وبعده، كما أقر خطة شارون بالاحتفاظ بالمستوطنات في الضفة الغربية في أي تسوية نهائية. وحينها، طالب بوش الفلسطينيين والعرب بأن يدركوا التغييرات الواقعية على الأرض التي حدثت في فلسطين المحتلة خلال العقود الأخيرة، ما يعني إسقاط مبدأ انسحاب إسرائيل إلى حدود 4 يونيو/حزيران عام 1967، المتفق عليها دوليا.
وتكشف الاتصالات البريطانية الأمريكية بشأن نتائج قمة بوش وشارون عن استياء داخل الإدارة الأمريكية من التنازلات التي أعطيت لإسرائيل. فقد أبلغ ريتشارد أرميتاج، نائب وزير الخارجية الأمريكي، السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة، سير ديفيد ماننغ بأنه "لم تكن هناك ضرورة لأن يقدم بوش أي تنازلات بشأن الحدود أو حق العودة".
وخلال "نقاش خاص"، قال المسؤول الأمريكي للسفير البريطاني إن "شارون عرانا"، أي الأمريكيين. ورغم أن أرميتاج عبر عن اعتقاده بأن "المنطق وراء ما قاله بوش ربما يكون محقا، فإنه تساءل: لماذا التخلي عن هذه الأوراق الآن؟". وفي تقريره إلى وزارته عن اللقاء، وصف السفير البريطاني المسؤول الأمريكي بأنه "كان متجهما مكفهرا".
وأسرَّ أرميتاج إلى سير ماننغ بأن ما حدث بين بوش وشارون "كان له وقع سيئ على كوندي"، في إشارة إلى كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكية في ذلك الوقت. وأضاف أرمتياج أن رايس "أخفت هذا (الشعور) لكنها أصبحت عصبية متوترة".
ووفق تقرير سير ماننغ، فإنه خلال النقاش، اتصل كولين باول وزير الخارجية الأمريكي بأرمتياج ليبلغه بأن "أبو علاء (أحمد قريع رئيس وزراء السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت) اتصل ليعبر عن مدى غضبه من أداء بوش".
بعد ساعات من هذا النقاش، اتصل سير نايجل بمستشارة الأمن القومي الأمريكية التي قللت له من شأن الغضب العربي والفلسطيني من الضمانات التي قدمها بوش لشارون. ووفق تقرير سير نايجل عن مباحثاته مع رايس، فإنه نبه المسؤولة الأمريكية إلى أن العرب والفلسطينيين "سيكونون غير سعداء" باللغة التي استخدمها الرئيس بوش خاصة بشأن حق العودة. ورغم "إدراكها لهذا"، فإنها توقعت أن العرب "سوف يعوون ويصرخون لبعض الوقت"، كما قال السفير.
وفي التقرير، الذي أرسل إلى جيفري آدمز، السكرتير الخاص لوزير الخارجية البريطاني، قال سير نايجل لرايس: "من المؤسف أن اللغة المستخدمة بشأن حق العودة استبعدت العودة إلى إسرائيل"، يقصد فلسطين التاريخية. وردت رايس قائلة إن هذه اللغة "كانت نتيجة إعادة صياغة استغرفت فترة طويلة".
اظهار أخبار متعلقة
وأوضحت للمسؤول البريطاني أن بوش كان واضحا بأنه يؤيد حل الدولتين "على افتراض أن الفلسطينيين سوف يعودون إلى فلسطين"، في إشارة إلى الدولة الفلسطينية المأمولة.
وعندما سُئلت عن قضية المستوطنات، التي يحرمها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ردت رايس بأن لغة بوش بشأنها "يجب أن تكون مقبولة من أي وجهة نظر عربية"، وأضافت أن النقطة الرئيسية هي أن خطة شارون لفك الارتباط الأحادي مع غزة "فرصة"، وذكّرت بأنه "لم تعُد بوصة واحدة من الأرض الفلسطينية حتى الآن".
وفي أواخر أغسطس/آب عام 2005، استكمل جيش الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من غزة. وفي يناير/كانون الثاني من العام التالي، فازت حماس بالانتخابات، التي شهدت منظمات دولية والاتحاد الأوروبي، بأنها كانت أول انتخابات فلسطينية حقيقية نزيهة ونقطة تحول تاريخية. غير أن الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي صنفوا الحركة، التي شكلت الحكومة الفلسطينية، بأنها جماعة إرهابية، وقُطعت المعونات عن الشعب الفلسطيني.
ولاحقا، فشلت خطة حركة فتح بزعامة محمود عباس بدعم من إسرائيل والولايات المتحدة وأطراف إقليمية، في إسقاط حماس. وفي يونيو/حزيران عام 2007، تمكنت حماس من السيطرة على غزة، ليخضع القطاع لحصار شامل محكم مدمر للحياة لا يزال مستمرا حتى الآن.