في بداية معركة طوفان الأقصى كان كل
الخبراء يتوقعون أن تستمر المعركة عدة أسابيع، يخرب فيها العدو جزءا من البنى
التحتية في
غزة ويغتال بعض القيادات ويحقق بعض الإنجازات العسكرية التي يحتاجها في
مرحلة التفاوض، كما هو الحال في كل الجولات السابقة مع فصائل
المقاومة، وكان
متوقعا أن تستمر الجولة ربما أطول من الجولات السابقة، حيث بدأت بنصر استخباراتي وأمني
وعسكري فلسطيني فاقتحمت الكتائب معسكرات الغلاف وسيطرت عليها وأخرجت فرقة غزة عن
الخدمة وعادت بأكثر من 200 من الأسرى إلى داخل أنفاق غزة، وأطلقت عدة آلاف من
الصواريخ على مدن الكيان في اليوم الأول من المعركة.
عبّر
نتنياهو عما حدث عندما فقال قبل
أيام: في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تلقينا ضربة هائلة".
ما حدث جعل استمرار الجولة أكثر من
السابق أمرا مؤكدا، ولكن الذي لم يتوقعه أغلب المحللين والمراقبين أن تستمر الحرب
عاما كاملا وأن تدخل عامها الثاني ثم تتوسع رغم أن الاحتلال لم يحقق شيئا مما
أعلنه من أهداف، فما زالت المقاومة في الميدان وكأنها تقاتل في الأيام الأولى رغم
الدمار ورغم اغتيال القادة، وما زال أسرى العدو في يد المقاومة، وما زال القتال
يدور في المناطق الحدودية لغزة حيث بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا.
العقيدة العسكرية والأمنية لا يمكن أن تتغير هكذا بين عشية وضحاها، ولهذا فإن استمرار الحرب ربما يكون ناتجا عن عوامل خارجة عن إرادته ولا يدرك كيف يتعامل معها
كل هذا جعل البعض يقول: إن العدو غيّر
عقيدته القتالية، وأنه مستعد للحرب لسنوات وأن جبهته الداخلية باتت مؤمنة بهذا، وربما
كانت المقاومة على خطأ وربما كنا جميعا لا نعرف العدو عندما اعتقدنا أنه لا يتحمل
تكاليف الحرب العسكرية والسياسية والاقتصادية لمدة طويلة. فهل غيّر العدو عقيدته؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إن
العقيدة العسكرية والأمنية لا يمكن أن تتغير هكذا بين عشية وضحاها، ولهذا فإن
استمرار الحرب ربما يكون ناتجا عن عوامل خارجة عن إرادته ولا يدرك كيف يتعامل معها.
أولها: أن العدو أعلن اهدافا للحرب
عالية في سقفها وللآن لم يستطع أن يحقق شيئا منها، ومعنى قبوله بوقف الحرب إقرار
بالفشل والهزيمة وخضوعه لشروط المقاومة.
وثانيا: ظن العدو في البداية أنها
ربما تكون فرصة لإبادة شعب غزة ودفعه إلى الرحيل مثلما حدث في النكبة الأولى، ولهذا
ولغ في دماء النساء والأطفال وهاجم المستشفيات والمدارس ودمر البنى التحتية. ولكن
هذه المحاولات جميعا تنكسر أمام ثبات الجميع في غزة، وكان خير تعبير عن هذا الصمود
ما قالته المرأة الغزية: نحن لدينا أقمشة بيضاء نصنع منها أكفان شهدائنا ولكن ليس
عندنا أقمشة نصنع منها رايات استسلام.
هناك المصلحة الشخصية لنتنياهو والعصابة المحيطة به، حيث إن نهايتهم ستكون بنهاية الحرب، ولهذا يحاول إفشال كل الصفقات ولا يأبه لمصير الأسرى، بل كان حريصا على قتلهم فهو يقود معركته الشخصية ومعركة شركائه من أقصى اليمين
وثالثا: الحرب لها تداعيات هائلة على
العدو، حيث لا يلبث المستوطنون أن يخرجوا من الملاجئ حتى يعودوا إليها، وأصبحت
طائرة مسيرة صغيرة واحدة أو صاروخ باليستي واحد يطلق من اليمن سببا لهروب الملايين
إلى الملاجئ، وحيث تعطلت العملية التعليمية وانتهى النشاط السياحي وتوقفت المصانع
وفر مئات الآلاف إلى الخارج. ولكن ما هو متوقع في اليوم الأول بعد الحرب يفوق كل
هذا من حيث مستقبل الكيان وبقائه ومن حيث أمنه الداخلي وسلامه المجتمعي، وهو الذي
كان على حافة الحرب الأهلية قبل الطوفان في معركة الإصلاحات القضائية.
ورابعا: هناك المصلحة الشخصية
لنتنياهو والعصابة المحيطة به، حيث إن نهايتهم ستكون بنهاية الحرب، ولهذا يحاول
إفشال كل الصفقات ولا يأبه لمصير الأسرى، بل كان حريصا على قتلهم فهو يقود معركته
الشخصية ومعركة شركائه من أقصى اليمين.
وخامسا: هناك العامل الأمريكي والصدمة
التي أحدثها الطوفان لخططها في المنطقة، مما جعلها تقف أمام معظم دول العالم في
مجلس الأمن والأمم المتحدة وتحمي نتنياهو حتى الآن من المساءلة الجنائية.
لهذه العوامل ولغيرها تستمر الحرب، وهي
في كل الأحوال ليست في مصلحة العدو، وإن أخّرت تفكك الكيان فإنها لن تمنع ذلك، وهو
يستمر فيها ويستنزف يوميا لا طمعا في النصر وإنما خوفا من سوء المصير.