في الحرب النظامية، ربما يكون استهداف القيادات العسكرية الميدانية خطوة لكسب المعركة، ولكن في حروب الاستنزاف، يصعب تحديد أهمية الأشخاص ومواقعهم، وقد يؤدي استهداف بعضهم لزيادة التوتر واشتداد المعارك.
ويزداد الوضع تشوشا، عندما يُستهدف قائد يحمل صفة المرجعية الروحية، بالإضافة لموقعه السياسي. ولذلك؛ يصعب التكهن بما سينجم عن
اغتيال السيد حسن
نصر الله، الأمين العام لحزب الله
اللبناني.
ما الذي كان يدور في أذهان المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين وهم يخططون معا لذلك الاستهداف؟ أهو تخطيط استراتيجي؟ أم عملياتي محدود الأهمية؟ أم محاولة لرفع معنويات القطاعات العسكرية، التي تشعر بفشلها في حسم الصراع حول فلسطين، برغم مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن؟
فهل كان نصر الله الوحيد الذي اغتالته قوات
الاحتلال؟ فإذا لم يكن كذلك فما الذي حققه الاحتلال بعد مسلسل الاغتيالات الذي تواصل طوال تاريخه؟
المؤكد أن السيد نصر الله، لا يمكن مقارنته ببقية ضحايا الاغتيال الإسرائيلي من حيث الموقع والدور والرمزية.
إن من المؤكد أن السيد نصر الله لا يمكن مقارنته ببقية ضحايا الاغتيال الإسرائيلي من حيث الموقع والدور والرمزية في الصراع المتواصل الذي اتخذ أبعادا حضارية وأخلاقية، ولكن المؤكد كذلك أن بعض الاغتيالات يؤدي إلى عكس ما يريده مرتكبوها، فتتحول إلى نقاط تحول في مسارات الصراع، وقد تؤدي إلى حروب أوسع. أليس هذا ما حدث بعد محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي، شلومو أرجوف، في لندن في 3 حزيران/ يونيو 1982؟ ألم يحدث بسبب ذلك اجتياح إسرائيلي للجنوب اللبناني بدأ بعد ثلاثة أيام من تلك المحاولة؟
يضاف إلى ذلك، أن الاغتيال تعبير عن عدم القدرة على حسم المعارك، أو تحقيق انتصارات حقيقية، خصوصا في الحروب التي يعتبرها المشاركون فيها «وجودية». كما يشير إلى تجاوز القوانين التي تحكم المسارات الإنسانية، ومن بينها التي تحرّم القتل خارج إطار القضاء.
في السنوات الأخيرة، اعتمد الإسرائيليون سياسة الاغتيال على نطاق واسع، ولكنها لم تحقّق الأمن الذي يتطلعون إليه، ولم تضعف الجهات التي ينتمي لها ضحايا الاغتيال. وإذا عادت الذاكرة أربعين عاما إلى الوراء لاستذكار ما حدث في 16 شباط/فبراير 1984، سيتضح أن سياسة الاغتيال، ربما ساهمت في تقوية الجهات التي استُهدف مسؤولوها.
في ذلك اليوم، قامت «إسرائيل» باغتيال الشيخ راغب حرب على باب منزله في منطقة جبشيت جنوب لبنان. وحدثت ضجة كبيرة وسرت قشعريرة قوية في أوساط اللبنانيين والفلسطينيين. ربما اعتقدت «إسرائيل» أنها بذلك الاغتيال، ستمنع مقاومة وجودها في لبنان، ولكنها سرعان ما اكتشفت استحالة ذلك. ولكن سياساتها العدوانية في المنطقة استمرت، واستهدفت الأراضي اللبنانية والفلسطينية بالقصف تارة والاغتيال أخرى.
وتصاعدت الاغتيالات منذ مطلع السبعينيات، ابتداء باغتيال كل من أبو علي أياد ووصفي التل في 1971 مرورا بغسان كنفاني في 1972، وصولا إلى زهير محسن وعلي حسن سلامة في 1979.
وتواصلت الاغتيالات بشكل متواصل مع تغير في الأساليب وتوسع في الأهداف. ويمكن القول بأن اغتيال السيد حسن نصر الله يعد ذروة تلك السياسة وآخر فصولها. والسؤال هنا ما إذا كانت هذه الجريمة تمهيدا لحرب في المنطقة خطّطت لها «إسرائيل» بموافقة أمريكية. إذا كان الأمر كذلك فليس مستبعدا أن تتوسع دائرة الصراع لتأتي على الأخضر واليابس.
اعتقدت «إسرائيل» أن قصف أهداف في لبنان وسوريا والعراق، سوف يضعف مقاومة الاحتلال، وربما ظن منظّروها أن استخدام القوة المفرطة لإدخال الرعب في قلوب الكثيرين، سوف يوفر رادعا لمن يتصدى للاحتلال والعدوان.
ولكن أصبح واضحا أن تلك الأساليب كانت بمنزلة الوقود الذي سيشعل حربا إقليمية واسعة، وما أكثر التلميحات الإسرائيلية لاحتمال استهداف المشروع النووي الإيراني، ولكن الرئيس الأمريكي صرّح برفضه لذلك، وأشار على الإسرائيليين باستهداف المصالح النفطية الإيرانية كالحقول النفطية، وربما المصافي والمستودعات ومراكز التوزيع.
فهل هذا خيار يشير به رئيس دولة كبرى يُفترض أن تكون حريصة ليس على مصالح حلفائه في الغرب؟ ألا يعتقد أن استهداف المنشآت النفطية الإيرانية، سوف يتوسع ويشمل حقوق النفط ومنشآته في أغلب دول المنطقة؟
هنا يضحّي بايدن وفريقه بمصالح الغرب كله من أجل ما يعتقده دفاعا عن «إسرائيل». فمن الذي يهدد أمن الغرب هنا؟ فلو لم يكن الكيان الإسرائيلي موجودا، هل كان النفط سيتوقف عن الغرب؟
هذا يعني أن وجود الاحتلال وسياسات أمريكا لحمايته بالوسائل كافة، هو المصدر الأول لتهديد مصالح الغرب، والحافز الأول لقطع النفط عنه في ما لو حدث ذلك. أليس هذا ما حدث عندما أعلن الملك فيصل في حرب 1973 احتمال استخدام النفط سلاحا في المعركة، الأمر الذي دفع أسعاره للارتفاع المفاجئ؟
أليس واضحا أن وجود الاحتلال وسياساته، وكذلك مواقف أمريكا الداعمة له دون حدود، يمثل تهديدا لتدفق النفط إلى الغرب؟ فما الذي يحمل بايدن وإدارته على التضحية بمصالح الغرب لحماية رئيس وزراء مطلوب للعدالة من قبل محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية؟ أليس في أمريكا رجل رشيد ينأى بالولايات المتحدة عن التورّط في أزمات من صنع «إسرائيل» وليس أي طرف آخر؟
من هنا، يتضح أن جريمة اغتيال السيد حسن نصر الله تنطوي على بعد استراتيجي خطير، ولا يمكن اعتبارها عملا عاديا ضمن الممارسات الإسرائيلية المتكررة التي تستهدف الوضع العربي والفلسطيني.
فهي بمنزلة إعلان حرب على قطاع واسع من رافضي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فإذا كان الغربيون الذين دعموا الجريمة الإسرائيلية يعتقدون أن آثارها ستبقى محصورة ضمن الخطاب الطائفي الذي يروّجه الغربيون بين الحين والآخر، فما أبعدهم عن الواقع. لقد جهلوا حقيقة مهمة، وهي أن القضية الفلسطينية بوتقة تنصهر الاتجاهات الدينية والمذهبية والإيديولوجية فيها، فتستبدل تلك الانتماءات بمشاعر الانتماء لقضية محورية يتوافق عليها أبناء المنطقة على تعدد انتماءاتهم.
ويمثل المسيحيون قطاعا واسعا من هؤلاء، كما هم المسلمون بمذاهبهم المتعددة. لذلك ساد الغضب والشعور بالإحباط إزاء السياسة الأمريكية الأقطار العربية كافةظن التي شعر مواطنوها أن ما حدث لم يكن استهدافا لطرف منفصل عن بقية أجزاء الأمة، بل كان ضربة موجّهة لمشروع مقاومة الاحتلال، وكذلك مقاومة التوجهات الاستسلامية لدى دعاة التطبيع.
فهؤلاء جميعا يشعرون بالإحباط لعدم حدوث تطور ملموس في مسار البحث عن حلول سلمية تحقق أمن المنطقة واستقرارها. وثمة ما يشبه الإجماع على أن الجريمة الإسرائيلية قد أعادت مشاريع «السلام» أعواما إلى الوراء، وأن
حزب الله ملتزم بميثاقه الذي كرّره زعماؤه المستهدفون من «إسرائيل، بأنهم تنظيم عقائدي يضع قضية فلسطين على رأس أولوياته، ويرفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، أو التطبيع وإقامة العلاقات معه.
ومن المؤكد أن العديد من الأنظمة العربية رحّب باغتياله، وربما كان متواطئا مع الإسرائيليين في ذلك. ويتردد أن من بين التحفظات على اغتيال الأمين العام لحزب الله، احتمال نشوب حرب شاملة ينجم عنها أضرار بليغة، فكان رد فعل بعض «مموّلي» الحملة التعبير عن استعداده لتحمّل كل تكاليف تلك الحرب إن وقعت.
أهذا موقف قومي أم وطني أم إنساني؟ أم إن قدر هذه الأمة أن تتضافر جهود ذوي المال والسلطان لكسر شوكة المناضلين، الحريصين على تحقيق سيادة الأمة وحماية فلسطين والعمل لتحريرها؟
القدس العربي