"الحب
والحرب تجمعها غدرة المفاجأة وبدرتها، الطيبة في الأولى، والخبيثة في
الثانية"، وأن يظنَّ بك عدوك الجنون والظنون.
هذه
أولى مبادئ
الحرب التي لم يذكرها فيلسوف الحرب المعروف، وهو الصيني سون تزو، وهو
أشهرهم على الإطلاق، ولم يذكرها كارل فون كلاوزفيتز باللفظ. المبدأ هو: الجنون
العاقل، وقد رأينا جنون المغول الدموي وهم يجتاحون العالم، ويفتكون بالأطفال
والنساء والعلماء، وكذلك فعل هتلر الذي دمر لندن وستالين غراد، وغيرهما، سيسمى هذا
الخيار الصفري في لغة العلوم السياسية، وكذلك فعلت اليابان في بيرل هاربر، فردت
أمريكا بجنون ليس بعده جنون، وهو ضرب هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين نوويتين أهلكت
الزرع والضرع والبشر والحجر، وجنون إسرائيل في غزة والضاحية. يدرج خيار الجنون في
شؤون
الحرب النفسية، أن توهم عدوك أنك مجنون.
جاء
في الحديث الشريف: "نصرت بالرعب مسيرة شهر.."، وقد أدركت إسرائيل ضعف
عدوها إيران ومن ورائها كتيبتها العربية الشيعية، حزب الله، في حرب الثلاثمائة
صاروخ، واستشعرت إسرائيل تردد الحزب من اليوم الأول، يوم تحول العمود الشهير إلى
مرمى جمرات، ودريئة تصويب وتصريف، ثم تيقنت إسرائيل من تردد حسن نصر الله والتزامه
قواعد الحرب، ومن "صمت الحملان" العربي. الحزب شاخ مبكرا، وتأكدت
إسرائيل من الأمر عندما خرج أمين عام الحزب ووضع يده على الخريطة، ثم ارتد في
اليوم التالي عندما شرح الإشارة بالعبارة، وظهر مصطلح جديد لدى محور المقاومة هو
محور المساندة، محور الإسناد مكان وحدة الساحات.
ويمكن
البحث له عن معاذير، فهو وإن كان سيد لبنان، لكنه لا يتبعه من أهلها سوى ربع شعب
لبنان، ولا يستطيع أن يغامر مثل إسرائيل التي تحظى بحماية دولية أمريكية. تبيّن
للأعمى أن إيران تغني أغنية صباح فخري: يا ناس سيبوني في حالي في حالي، فقد وقعت
في حفرة صاحب الزمان: الغرام النووي. وصدرت تصريحات عن رئيسها الجديد تغازل أمريكا،
وأنَّ المدرب لا يلعب، وسواها من التصريحات التي سبقتها عشرات تهدد وتتوعد بالرد
على مقتل هنية!..
السؤال:
هل كان المسلمون العرب يعرفون الحرب النفسية، وتكوين الصورة الذهنية لدى العدو؟
سنذكر ثلاثة أمثلة، وكان يمكن أن نبدأ بمثال معركة ذي قار.
فرسان
ممثلون:
يقول
الطبري في
تاريخ الملوك والأمم: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، قال:
حَدَّثَنَا سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، قال: لما نزل رستم النجف بعث منها عينا
(جاسوسا) إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندَّ منهم، فرآهم
يستاكون عند كل صلاة، ثم يصلون، فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم
وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدا منهم
يأكل شيئا إلا أن يمصوا عيدانا لهم حين يمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا، فلما
سار نزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذّن مؤذن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون
(يتجمعون)، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولِم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم
قد نودي فيهم فتحشحشوا لكم.
فعاد
الجاسوس وأخبر قومه الفرس بأن المسلمين يسنّون أسنانهم بالعيدان ليأكلوهم!
سمٌّ
كالعسل:
المثال
الثاني من الطبري أيضا: قَالَ: ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ (بن الوليد) بِالْمُسْلِمِينَ
حَتَّى بَرَزَ عَلَى الْحَيْرَةِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ حُصُونٌ وَثِيقَةٌ وَرِجَالٌ
جُلْدٌ مِنَ الْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَيْهِمْ جَعَلُوا
يَرْمُونَهُ بِالنُّشَّابِ، وَيَرْجُمُونَهُ بِحِجَارَةٍ، فَغَضِبَ خالد مِنْ
ذَلِكَ وَأَرَادَ يَعْجَلَ عَلَيْهِمْ بِالْحَرْبِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ الأَسَدِيُّ: أَيُّهَا
الأَمِيرُ، لا تَعْجَلْ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لا عُقُولَ
لَهُمْ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَكِيدَةٌ أَكْثَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رَمْيِ النُّشَّابِ
وَالْحِجَارَةِ، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِمْ وَأْمُرْهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْكَ،
وَمُرْهُمْ بِمَا تُرِيدُ مِنْهُمْ.
قَالَ:
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلا مِنْهُمْ لَهُ عَقْلٌ
وَرَأْيٌ وَفَهْمٌ، يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ، حَتَّى أُكَلِّمَهُ،
وَلَعَلِّي أَنْ أُصَالِحَكُمْ. قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ رَجُلا مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ بَلْقَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثِ بْنِ
بَقِيلَةَ الْغَسَّانِيُّ، فَقَالُوا إِلَيْهِ: سِرْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ
وَانْظُرْ مَا يُرِيدُ مِنَّا، فَإِنْ قَدِرْتَ عَلَى صُلْحِهِ فَصَالِحْهُ
عَنَّا.
قَالَ:
فَخَرَجَ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ له نيّف على مائتي سنة، حتى
صَارَ إِلَى خَالِدٍ وأنشد شعرا، ودار بينهما حوار طريف بالتوريات والكنايات، ثم قَالَ
خَالِدٌ له: إِنِّي أَرَى يَدَكَ مَضْمُومَة عَلَى شَيْءٍ، فَخَبِّرْنِي مَا فِي
يَدِكَ، قَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ: فِي يَدِي سُمُّ سَاعَةٍ (أي يقتل بعد ساعة من
طعامه)، قَالَ خَالِدٌ: مَا تَصْنَعُ بِهِ، قَالَ: جِئْتُ بِهِ مَعِي، فَإِنْ
كَانَ مِنْكَ إِلَيْنَا مَا يُوَافِقُ قَوْمِي فَذَلِكَ الَّذِي أُرِيدُ، وَإِنْ
كَانَتِ الأُخْرَى شَرِبْتُ هَذَا السُّمَّ وَاسْتَرَحْتُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا،
فَقَدْ طَالَ عُمْرِي فِيهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: أَرِنِي هَذَا السُّمَّ حَتَّى
أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْ رَاحَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ
اللَّهِ خَيْرِ الأَسْمَاءِ، بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بِسْمِ
اللَّهِ الَّذِي خَالِقٌ خَلِيقَتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَلْقَى السُّمَّ فِي
فِيهِ وَبَلَعَهُ، فَجَعَلَ يَرْشَحُ عَرَقا وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئا.
قَالَ:
ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى أَهْلِ الْحَيْرَةِ، قَالُوا لَهُ: مَا
وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ: وَيْلَكُمْ يَا قَوْمِ، اعْطُوا هَؤُلاءِ
الْقَوْمَ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْكُمْ فَلَيْسَ عِنْدِي هُمْ بِنَاسٍ، وَذَلِكَ
إِنِّي رَأَيْتُ السُّمَّ لا يَعْمَلُ فِيهِمْ. قَالَ: فَعِنْدَهَا طَلَبَ
الْقَوْمُ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ خالد على مائة ألف درهم وَعَلَى طَيْلَسَانِ
شيرويه بْنِ كِسْرَى، كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِمْ بِثَلاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
تيجانكم
عمائمكم:
المثال
الثالث من الطبري أيضا، قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين قال: فكتب إليه ملك الصين
أن ابعث إلينا رجلا من أشرف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم، فانتخب قتيبة
من عسكره اثني عشر رجلا من أبناء القبائل، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس، بعدما
سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولا وجمالا، فأمر
لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق
والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها، قال: وكان
هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوها بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة، كيف أنت صانع؟ قال:
أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به، قال: سيروا على بركة
الله، وبالله التوفيق، لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه
فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم (بالجزمة)، وأختم ملوكهم، وأجبي
خراجهم.
قال:
فساروا، وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فقاموا
بعمل مسرحية، فلبسوا في اليوم الأول من الزيارة أزياء المنزل والأهل، وفي اليوم
الثاني أزياء الأندية والمجلس، وفي اليوم الثالث عدة الحرب والقتال، فاحتار فيهم
ملك الصين، وسألهم توضيحا لرموز العرض والزيارة، فبين لهم هبيرة العلامات
والإشارات، فذهل ملك الصين، وقال:
ما
أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه
وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من
أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا
عليها وغزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل،
فلسنا نكرهه ولا نخافه. فأجابه ملك الصين مذعورا إلى ما أراد.
يكذّب
العلمانيون والسلفيون كثيرا من أخبار الطبري، وفيها مرويات كثيرة مشكوك بصحتها،
ويعتبرونها أساطير، لكن أليست سرديات الغرب إلا أساطير! نذكر بأن أمريكا بثّت في
جنودها الذين غزوا العراق قصة طروادة وأبطالها. قال جورج بوش: إذا تركنا
الطرواديين يفرون بجلودهم، بعد خطف هيلين، فإنهم سيسبون النساء من جديد، وإذا لم
نحاربهم الآن فسنحاربهم فيما بعد عندما يصبحون أقوى.
هيلين
هي غاية كل حرب، وهي سببها، ولهذا مقال آخر.
x.com/OmarImaromar