لا تربطني بالإخوان المسلمين رابطة تنظيمية منذ سنوات،
بعد أن كنت عضوا في مجلس شوراها في تركيا، وكنت عضوا في لجنة التحقيق بها، وقدمت
استقالتي منها بعد قناعة تامة بأن مكاني الأهم والأفضل: العلم والدعوة العامة،
بعيدا عن التنظيمات، مع تقديري لكل جهد جماعي يخدم الإسلام والمسلمين. وقد كان
قراري قديما، قبل 2013م، ولكن لما جاءت الأحداث، رأيت وقتها أنه ليس من المروءة
الاستقالة في هذا الظرف، ثم حدثت أحداث ليس مجال الحديث عنها الآن، جعلت قراري حين
أوانه. ومع ذلك فالصلة معقودة بيني وبين كل كيان يجمعني به مشتركات، سواء بالنصح
أو التأييد فيما أراه صوابا، وأن من أخلاق العشرة الحسنة الوقوف معه فيه، خاصة
فيما يتعلق بالمحن.
قدمت بهذه التقدمة، لأن الحال الذي تعيشه الجماعة
حاليا، خاصة القُطر
المصري، سواء في الداخل أو الخارج، يمر بأزمات، ومحاولة لملمة
أطراف الجماعة، واستعادة بعض مكانتها، أو بعض علاقاتها، سواء أصابت في خطواتها أم
لم تُصب، فهو سعي ومحاولات في إطار الاجتهاد، الذي لا يستغني عن النصح والتسديد.
من هذه المواقف ما حدث مؤخرا من موقف
الإخوان من حادث
الرئيس
الإيراني إبراهيم رئيسي، ثم تعزيتهم بعد إعلان وفاته، وهنا اختلف الناس حول
موقفهم، في ظل جو عام محتقن من الموقف الإيراني في سوريا واليمن والعراق، وهو موقف
يقدَّر ويحترَم لأنه نابع من أشخاص أضيروا في أعز ما يملكون من الأوطان والأهل
والخلان، ولا يمكن لأحد أن يطلب منهم التناسي أو التعافي دون أن ينتهي الملف نفسه
بحل عادل، وهؤلاء سيظل موقفهم مقدرا، ولا يمكن إغفاله.
هناك زوايا أخرى، لا يمكن للمتحرك في السياسة والعلاقات أن يقف عندها، ليس من باب إهمال الجانب القيمي والأخلاقي، بل لأن عالم العلاقات تحكمه موازين أخرى تضاف إلى ذلك، ومنها: باب المجاملات في المناسبات الحزينة أو المناسبات العامة، وليس معنى التعزية في وفاة رئيس دولة، أو في حادث لدولة معينة، أنه تماه مع مواقفها، أو مع أيديولوجيتها
لكن في المقابل هناك زوايا
أخرى، لا يمكن للمتحرك في
السياسة والعلاقات أن يقف عندها، ليس من باب إهمال
الجانب القيمي والأخلاقي، بل لأن عالم العلاقات تحكمه موازين أخرى تضاف إلى ذلك،
ومنها: باب المجاملات في المناسبات الحزينة أو المناسبات العامة، وليس معنى
التعزية في وفاة رئيس دولة، أو في حادث لدولة معينة، أنه تماه مع مواقفها، أو مع
أيديولوجيتها، وهو نفس الخطأ الذي تعالج به على مستوى آخر قضية مثل التهنئة لغير
المسلمين بأعيادهم؛ بأن المهنئ راض عن عقيدة الآخر، أو عن تصرفاته كلها، فهنا خطأ
في التعامل، وخطأ في التوصيف.
فالنصوص الشرعية في باب
المعاملة مع المخالف في باب المواقف العامة، لاعتبارات ومصالح، موجودة ومتوافرة في
الشرع الحنيف. ففي السيرة النبوية نرى موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله
بن أبي بن سلول، وهو رأس النفاق، والذي خاض في عرض زوجته السيدة عائشة، وبهذا
الموقف عاش بيت النبوة أصعب محنة، حيث النيل من عرض زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك عندما توفي ابن سلول،
ذهب ابنه عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه قميصه كي يكفن فيه أباه،
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، وكُفن فيه. وكان ذلك لمكانة ابنه المؤمن،
وردا لجميل سابق لابن سلول مع العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم،
حين أسر في غزوة بدر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يُلبسوا كل
أسير قميصا، فلم يجدوا قميصا على قدر بدن العباس سوى قميص ابن سلول، وأعطاه إياه
ابن سلول هدية، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك جميلا، رده له بعد وفاته
بقميصه، ليكفن فيه.
أما من حيث الممارسة الحركية،
فإن كثيرين من الإخوة الذين عبروا عن غضبهم ضد تعزية المصريين، لا لوم عليهم في غضب
المحب، لكن البعض يشتط بشكل غير مقبول، وهو نفسه يمارس ما يلوم المصريين عليه،
وكانت الحركة الإسلامية والإسلاميون المصريون من أكثر الناس تفهما لما يقوم به
إسلاميو هذه البلدان في مواقف مماثلة، فقد صنفت دول عربية الإخوان المصريين كجماعة
إرهابية، مثل: الإمارات، والسعودية، ودول أخرى، وظلت مكاتب وحركات إسلامية ومنها
الإخوان في أقطار مثل سوريا واليمن وغيرهما تتعامل مع هذه الدول، ولم يكن من العقل
أو الحكمة أو السياسة أن يطلب إخوان مصر من كل إخوان الأقطار الأخرى القطيعة مع
بلدان موّلوا الانقلاب عليهم، وأعملوا آلة القتل والتنكيل فيهم.
بل إنه في فترة حافظ الأسد
وصدام حسين، كان الإخوان العراقيون يتعاملون مع سوريا الأسد، والإخوان السوريون
يتعاملون مع صدام والعراق، رغم موقف كل منهما من إخوان بلده، فالإخوان جماعة
محظورة في العراق وسوريا.
مثل هذه المساحات التي يتحرك فيها العاملون بالسياسة هي مساحات متاحة، ومساحة التفاهم والتفهم فيها كبيرة، ما دامت لا تأتي على حساب خذلان الحق، وتأييد الباطل، أو الإضرار بالآخرين، فلم تعد العلاقات الآن أبيض وأسود تماما، وبخاصة في عالم السياسة، فما أكثر المساحات الرمادية والمساحات الملتبسة، ولو أن الإخوان كحركة توقفت في حراكها وعلاقاتها في هذه المساحات لخسرت وفاتها الكثير
وعندما أصيبت أسماء الأسد
زوجة بشار الأسد بسرطان الثدي، دعا لها بالشفاء الأستاذ المرحوم عصام العطار، وهي
تابعة لنظام قام بتصفية زوجته، وحاول اغتياله عدة مرات، وكان ذلك بعد مذابح الأسد
في سوريا، بعد قيام الثورة السورية. وقد عد الإخوان ذلك من باب نبل الرجل.
وكذلك كان الإخوان المصريون
لا يلقون باللوم مطلقا على إخوان فلسطين في تعاملهم مع النظام المصري، وبخاصة بعد
الانقلاب العسكري والمجازر التي جرت على أيدي هذا النظام، لأنهك تفهموا أن هذا
النظام هو أحد أهم المعابر المتاحة لغزة. ومن يتأمل في أحداث طوفان الأقصى سيجد أن أكثر
المتضررين سياسيا منها جماعة الإخوان في مصر، إذ أتى وانتفع بها السيسي سياسيا
واقتصاديا، بعد أن كان في حال سيئ ينذر بتأثر نظامه تأثرا كبيرا، فجاءت الأحداث
لتعيد دوره، وينتفع ماليا بما لم ينتفع به طوال عمره، من دعم عربي وأوروبي وصهيوني.
أما الفصيل الوحيد الذي سيخرج -بالمنطق المادي البحت- خاسرا فهم إخوان مصر، ومع
ذلك كانوا من أعقل الناس في التعامل مع هذا الملف وغيره، وهذا ينطبق على المصريين
من معظم التوجهات المعارضة، فقد نظروا إلى الملف الفلسطيني وأهميته، ولو كان على
حساب ملفهم الشخصي المتعلق بالنظام المصري.
مثل هذه المساحات التي يتحرك فيها العاملون بالسياسة
هي مساحات متاحة، ومساحة التفاهم والتفهم فيها كبيرة، ما دامت لا تأتي على حساب
خذلان الحق، وتأييد الباطل، أو الإضرار بالآخرين، فلم تعد العلاقات الآن أبيض
وأسود تماما، وبخاصة في عالم السياسة، فما أكثر المساحات الرمادية والمساحات
الملتبسة، ولو أن الإخوان كحركة توقفت في حراكها وعلاقاتها في هذه المساحات لخسرت
وفاتها الكثير، في ظل غياب كبير للإخوان المصريين بشكل مؤسف عن الأحداث والعلاقات
المحلية والإقليمية والدولية.
x.com/essamt74
[email protected]