قضايا وآراء

حزب العدالة والتنمية التركي والانتخابات المحلية.. النتائج والتداعيات

مصطفى بنموسى
نتائج الانتخابات الحالية أرسلت رسالة من القواعد الشعبية إلى حزب العدالة والتنمية مفادها أنه أمام منعطف كبير- الأناضول
نتائج الانتخابات الحالية أرسلت رسالة من القواعد الشعبية إلى حزب العدالة والتنمية مفادها أنه أمام منعطف كبير- الأناضول
أجريت الانتخابات المحلية التركية في مقاطعاتها البالغ عددها 81 مقاطعة، وهي الانتخابات الثالثة من نوعها التي تجرى في عهد الرئيس "أردوغان"، وقد أظهرت نتائج هذه الانتخابات خسارة مدوية لحزب العدالة والتنمية مقابل حزب الشعب الجمهوري الذي تصدر المشهد؛ هذه النتيجة دفعت بالرئيس أردوغان في كلمة أمام أنصاره بالإقرار بالخسارة متعهدا بالمحاسبة والمعالجة؛ الأمر الذي  يدفع إلى التساؤل حول عوامل إخفاق الحزب في هذه الانتخابات وتداعياتها على مستقبله في الساحة السياسية التركية.

تراجع كبير في النتائج

حسب اللجنة العليا للانتخابات التركية فقد بلغت نسبة المشاركة 78.55% من عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت والبالغ 61 مليوناً و441 ألفاً و882 ناخبا، كما أفرزت النتائج تصدر حزب الشعب الجمهوري المعارض المشهد، بحصوله على نسبة أصوات بلغت  37.76%، في المقابل حل حزب العدالة والتنمية في المركز الثاني بنسبة 35.48% ؛ وحصل حزب الرفاه على المركز الثالث بنسبة 6.1%.

وعلى مستوى المحافظات والبلديات تمكن حزب الشعب الجمهوري من السيطرة على بلديتي أنقرة وإسطنبول، حيث فاز أكرم إمام أوغلو أمام مرشح حزب العدالة والتنمية "مراد كوروم"؛ كما تم انتخاب "منصور يافاش" القيادي في حزب الشعب الجمهوري رئيسا للبلدية  أنقرة؛

إضافة إلى ذلك، حصل حزب الشعب الجمهوري على رئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة – مقابل 20 بلدية فاز بها خلال سنة 2019- منها 15 مدينة كبرى و21 محافظة، حيث احتفظ الحزب بالبلديات الكبرى التي فاز بها عام 2019، مثل أزمير وأضنة ومرسين وأنطاليا إلى جانب إسطنبول وأنقرة ؛ كما تمكن الحزب من انتزاع  10 بلديات من حزب العدالة والتنمية؛

مقابل ذلك فاز حزب العدالة والتنمية برئاسة 23 بلدية منها 11 مدينة كبرى، و12 محافظة، وبذلك تراجعت حصة الحزب في عدد البلديات التي كان يسيطر عليها في انتخابات 2019  من 39 إلى 23؛ كما تراجع عدد المحليات التي يسيطر عليها حليف الحزب  الحركة القومية من 11 بلدية  إلى 8.

إلى جانب ذلك، فاز ولأول مرة كل من حزب "الرفاه مجددًا"  ذو التوجه الاسلامي وحزب "الجيد" برئاسة بلدية واحدة لكل منهما، كما رفع حزب مساواة وديمقراطية الشعوب رصيده من 8 (كان فاز بها الشعوب الديمقراطي) إلى 10 بلديات.

وبمقارنة نتائج الانتخابات المحلية لهذه السنة مع تلك التي أجريت سنة 2019، فقد ارتفعت حصة البلديات الكبرى التي حاز عليها الحزب  من 11 إلى 15،  في المقابل انخفض عدد البلديات الحضرية التي فاز بها حزب العدالة والتنمية من 15 إلى 11 بلدية،  كما انخفضت عدد المقاطعات التابعة للحزب إلى 13 بعد أن كانت 24، وأيضا انخفضت عدد المناطق إلى 360 بعد أن كانت 535؛  ونفس الامر فيما يتعلق البلديات بالفرعية أو بلديات أحياء المدن الكبرى حيث سجل تراجع  في نتائج الحزب العدالة والتنمية من 19 إلى 8 من أصل 25 بلدية فرعية؛ وبذلك يبرز بشكل جلي تراجع نتائج حزب العدالة والتنمية مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ سنة  2002.

تحول في مزاج الناخبين

من خلال النتائج المعلن عليها يبدو حدوث تحول في مزاج الناخبين؛ فعلى مستوى توزيع الأصوات يمكن أن نسجل بعض الملاحظات، فيما يتعلق بالمعارضة، فقد صوت  معظمهم لفائدة مرشحي حزب الشعب الجمهوري وذلك بغية قطع الطريق على مرشحي حزب العدالة والتنمية وحرمانهم من الفوز؛

في هذا الاطار، تراجعت أصوات باقي الأحزاب المعارضة وخصوصًا حزب الجيد، ففي إسطنبول على سبيل المثال عزز الصوت الكردي من  فرص نجاح  إمام أوغلو مقابل تخليه عن التصويت لمرشحة الحزب الكردي، "ميرال دانيش بشتاش"، أضف إلى ذلك، ساهم ضعف أداء حزب الخير (المعارض) في حفاظ حزب الشعب الجمهوري على قاعدته الانتخابية في إسطنبول.

وفيما يتعلق بأصوات الناخبين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية فقد انقسمت بين فئتين، الفئة الأولى أرادت معاقبة الحزب الحاكم من خلال مقاطعة هذه الانتخابات، وقد برز ذلك بشكل واضح من خلال انخفاض نسبة المشاركة في العملية الانتخابية مقارنة بانتخابات 2019  حيث انخفضت النسبة إلى ما يقرب من 7 بالمئة وهو ما يعادل 6 مليون ناخب>

هذه النتائج تدعو إلى التأمل، فانخفاض نسبة المصوتين لفائدة حزب العدالة والتنمية مقارنة بالانتخابات السابقة تشير إلى عزوف واضح عن المشاركة بين أنصار الحزب مما يوحي إلى وجود رسائل تسعى القواعد الشعبية ايصالها للقيادة السياسية عبر صناديق الاقتراع مفادها رفض هذه القواعد للوضع الذي تشهده تركيا حاليا؛
في هذا السياق يرجح ان يمثل كبار السن الشريحة الأكبر من المقاطعين، خاصة  وأن هذه الشريحة تشكل الكتلة القوية التي تصوت عادة  لفائدة حزب العدالة والتنمية، كما يعطي انطباع على وجود تقاعس لدى التيار الموالي لحزب العدالة والتنمية الناجم عن الشعور بالدعة نتيجة الاطمئنان على استمرار اردوغان والبرلمان في السلطة للسنوات الاربع القادمة مما منح هذه الفئة فرصة توجيه رسالة للرئيس وحزبه بضرورة تغيير السياسات القائمة من خلال مقاطعة الانتخابات.     

أما فئة الثانية فهي التي اثرت التصويت لصالح حزب الرفاه ذو التوجه الإسلامي والذي يعد بديلا لبعض الناخبين عن حزب العدالة والتنمية، وهذا ما يفسر تراجع عدد الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية حيث انخفضت بأكثر من مليوني صوت (15.7 مليون صوت مقابل 18 مليون صوت في 2019)، رغم ارتفاع عدد المصوتين؛

عوامل إخفاق الحزب في الانتخابات

أكيد أن هذه النتائج تدعو إلى التأمل، فانخفاض نسبة المصوتين لفائدة حزب العدالة والتنمية مقارنة بالانتخابات السابقة تشير إلى عزوف واضح عن المشاركة  بين أنصار الحزب مما يوحي إلى وجود رسائل تسعى القواعد الشعبية ايصالها للقيادة السياسية عبر صناديق الاقتراع مفادها رفض هذه القواعد للوضع الذي تشهده تركيا حاليا؛ 

فالعامل الاقتصادي كانت له تداعيات على توجهات الناخبين، خاصة مع استمرار الأزمة الاقتصادية رغم تعهد أردوغان في الانتخابات الرئاسية بأنه سيعمل على حلها، وانهيار الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، وارتفاع نسبة التضخم وضعف القدرة الشرائية؛  والتراجع عن مسيرة تخفيض الفائدة التي كانت تهدف الحكومة إلى إلغائها بل تم تعيين شخص معارض لهذا التوجه في منصب وزارة المالية؛

إضافة إلى رواج أحاديث حول فساد في المحليات وفي مجال المقاولات وبناء المنازل في جنوب البلاد، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية التي خلفها الزلزال الذي ضرب تركيا في 6 فبراير 2023، حيث سبق وأن صرح الرئيس أردوغان بأن خسائر هذا الزلزال تقدر بحوالي 104 مليارات دولار.

لقد أرسلت النتائج الانتخابية برسائل إلى حزب العدالة والتنمية مفادها أن الشعب لا يريد مشاريع كبيرة ترهق جيبه وانما يريد تحسين الاقتصاد وان يشعر بذلك في جيبه ومصروفه وحياته وهو بمثابة اعلان عن رفض الإصلاحات والخطة الاقتصادية التي بدأ بها وزير المال والبنك المركزي القائمة على سياسة شد الاحزمة الصارم جداً؛ اضافة لعامل المسنين الحانقين على الحكومة بسبب عدم منحهم الزيادات المعاشية المطلوبة.

إضافة إلى العامل الاقتصادي، يبرز عامل اخر يوازيه في الأهمية ويتمثل في تخلي الحزب عن مواقفه ومنطلقاته الأولى ويتمثل ذلك في عدد من المحطات؛ فضعف الموقف الرسمي الحكومي والحزب العدالة والتنمية من العدوان على غزة حيث لم يتماهى مع تطلبه الحاضنة الانتخابية من اتخاذ مواقف جريئة تناهض المحتل بل بالعكس من ذلك عمدت  الحكومة التركية  على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المحتل الإسرائيلي كما استمرت العلاقات التجارية بين الطرفين، الأمر الذي جرى على الحزب نقمة الاحتجاج مقاطعة أو إبطالا للصوت أو التصويت لأحزاب أخرى.

حزب العدالة والتنمية وضرورة تصحيح المسار

إن إقرار الرئيس التركي رجب طيب بأن نتائج الانتخابات المحلية قد شكلت نقطة تحول، وتعهده بضرورة تصحيح الأخطاء التي قادت إلى أخفاق حزبه في هذه الانتخابات ودعوته قيادة الحزب إلى القيام بمراجعة وقراءة فاحصة لهذه النتائج وأسباب تخلف الملايين من أنصار الحزب عن المشاركة، لم يأتي من فراغ، فهو يدرك بأن هذه الانتخابات سيكون لها تداعيات مستقبلية سواء على المشهد السياسي أو على التحالف الذي يقوده أو حتى على الحزب الحاكم نفسه.

لا أحد ينكر دور الرئيس التركي ومواقفه الإيجابية ووقوفه ضد الاستكبار العالمي ومناصرته لعدد من القضايا في ليبيا وأذربيجان وغيرها المؤيدة للشعوب وان تعارضت مع مصالح معتبرة لتركيا؛ ولا أحد يعترض على وجود إكراهات تحاصر دولة مثل تركيا، فلا زالت الحمولة الأتاتوركية العلمانية، ومخلفات الإرث الاستعماري الغربي تفرض عليها عدم تجاوز أدوار مرسومة سلفا تبقيها مقيدة باتفاقات سياسية وعسكرية واقتصادية وتحاصرها بعضوية الناتو؛ لكن ما يعيشه حزب العدالة والتنمية اليوم مثل تراجعا عن توجهاته السابقة، وقد ظهر ذلك جليا في عدة محطات أبرزها الملف الاقتصادي؛ إضافة إلى بروز مشاكل أخرى من قبيل التعامل المتسامح مع موجة العنصرية الداخلية، ويكفي أن نشير في هذ السياق إلى حوادث عنصرية ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي، مما اضطر معه أزيد من ربع مليون مقيم بصفة قانونية إلى مغادرة تركيا؛ إلى جانب تراجع الحزب عن استخدام حق الفيتو ضد انضمام السويد إلى الناتو بالرغم من  إصرار  على حرق المصحف.

إن إقرار الرئيس التركي رجب طيب بأن نتائج الانتخابات المحلية قد شكلت نقطة تحول، وتعهده بضرورة تصحيح الأخطاء التي قادت إلى أخفاق حزبه في هذه الانتخابات ودعوته قيادة الحزب إلى القيام بمراجعة وقراءة فاحصة لهذه النتائج وأسباب تخلف الملايين من أنصار الحزب عن المشاركة، لم يأتي من فراغ، فهو يدرك بأن هذه الانتخابات سيكون لها تداعيات مستقبلية سواء على المشهد السياسي أو على التحالف الذي يقوده أو حتى على الحزب الحاكم نفسه؛
إلى جانب ذلك، تم تسجيل تراجع مهول في مواقف الحزب تجاه القضية الفلسطينية، الأمر الذي لا ينسجم مع المبادئ والمنطلقات الأولى التي شيد على أساسها الحزب، كما أنها لا ترقى إلى مستوى التصريحات الصادرة عن مسؤوليه والداعم للقضية الفلسطينية.

إن الاستقبال الاحتفالي لرئيس دولة الكيان المحتل واستمرار العلاقات التجارية والتعامل غير المفهوم وغير المبرر والمتسامح مع خلايا الموساد المكتشفة، وتعطيل تسيير قوافل سفن الحرية الداعمة والمساندة لصمود الشعب الفلسطيني، والاكتفاء بالتصريحات التلفزية بين الفينة والأخرى؛ حتى إن مواقف الحزب لم ترقى إلى مستوى مواقف دول مثل جنوب إفريقيا وكولومبيا والبرازيل أو حتى دول من أوروبا مثل بلجيكا وإسبانيا؛  قد شكلت نكسة للقاعدة الشعبية التي تعاطفت وأيدت الحزب انطلاقا من مبادئ المناصرة لقضايا الشعوب الإسلامية وخاصة القضية الفلسطينية، كما شكلت في الان ذاته طعنة في خصر شعوب المنطقة وهو ما صرح به قادة حماس أكثر من مرة.

وبذلك تكون نتائج الانتخابات الحالية قد أرسلت رسالة من القواعد الشعبية إلى حزب العدالة والتنمية مفادها أنه أمام منعطف كبير وإذا لم يستطع لملمة أوراقه بشكل سريع، فقد لا يختلف مصيره عن مصير حزب الوطن الأم الذي أسسه تورغوت أوزال، واندثر وغاب عن المشهد السياسي.
التعليقات (0)