كتاب عربي 21

الهجرة: عندما ينقلب السحر على الساحر والمسحور

صلاح الدين الجورشي
هل يمكن إيقاف حركة الهجرة فعلا؟- جيتي
هل يمكن إيقاف حركة الهجرة فعلا؟- جيتي
الهجرات ظاهرة مرتبطة بالتاريخ الإنساني، ولولاها لما حصل تقدم في مجالات متعدد. فالحاضر هو وليد الماضي البعيد والقريب بعد أن تشكلت موازين مختلفة، فظهرت قوى جديدة واختفت قوى أخرى أو تراجعت وأصابها الفتور.

وإذا ألقينا نظرة على العالم نلاحظ بأن نسق الهجرة ازداد بين سنتي 2000 و2015 بنسبة 44 في المئة، حيث بلغ عدد المهاجرين في العالم 244 مليون شخص. وهو عدد ضخم، لكن حسب تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان، بقيت نسبتهم مقارنة بعدد السكان لم تتجاوز 3 في المئة فقط. وهو ما يؤكد أن الهجرات لا تشكل خطرا حقيقيا على المجتمعات الأصلية، ولا تهدد وجودها، ولا تمثل بديلا ديموغرافيا لها كما تروج الخطابات الشعبوية في كثير من الدول.

ملف الهجرة ملف سياسي بامتياز، رغم كونه في الأصل ملفا اجتماعيا اقتصاديا إنسانيا، ومن يقوم بتوظيفه أحيانا بطريقة سيئة هم الديماغوجيون والشعبويون الجدد الذين يقفون وراء بعض الأحزاب والجماعات من أجل خدمة أهداف سياسية داخلية أو خارجية، ويستعملون في سبيل ذلك عدة جوانب حساسة لتهويل قضية المهاجرين، وتحويلها إلى مسألة مصيرية، مثل الأزمات الاقتصادية الداخلية التي قد تكون ناتجة في الغالب عن عوامل محلية ناتجة عن فشل خيارات السياسيين، لكنهم يعمدون إلى تفسيرها بطريقة تآمرية، حيث يعتبرونها ناتجة عن غزو القادمين من وراء البحار لبلدان شمال أوروبا. كذلك يوظف في هذا السياق صراع الهويات واستثمار الأديان بشكل سيئ، وتحويل القضية إلى نوع من أنواع الحروب المقدسة في سبيل الحفاظ على وجود الشعب والأمة والوطن كما تدعي هذه الأطراف.

ملف الهجرة ملف سياسي بامتياز، رغم كونه في الأصل ملفا اجتماعيا اقتصاديا إنسانيا، ومن يقوم بتوظيفه أحيانا بطريقة سيئة هم الديماغوجيون والشعبويون الجدد الذين يقفون وراء بعض الأحزاب والجماعات من أجل خدمة أهداف سياسية داخلية أو خارجية، ويستعملون في سبيل ذلك عدة جوانب حساسة لتهويل قضية المهاجرين، وتحويلها إلى مسألة مصيرية
لا بد من الوقوف عند عدد من المسائل الهامة لوضع ملف الهجرة في سياقه الأشمل والأعمق، وهو ملف يكتسي أهمية قصوى لدول دول جنوب وشمال المتوسط:

* أول هذه المسائل الأزمات الاقتصادية الهيكلية التي تمر بها دول الجنوب، وخاصة في القارة السمراء التي تعرضت ولا تزال إلى استنزاف لثرواتها من قبل بعض الدول الأوروبية التي لا يحق لها اليوم أن تتملص من مسؤوليتها التاريخية فيما وصلت إليه الأوضاع في معظم الدول الأفريقية. لقد حان الوقت للقيام بتغييرات جذرية في طبيعة العلاقة بين هذه الدول، واذا لم يحصل ذلك في القريب العاجل، فإن ما حدث مع فرنسا في الأشهر الأخيرة يمكن أن يتوسع ويتكرر مع دول أوروبية غيرها. فالاتحاد الاوروبي مدعو بإلحاح إلى مراجعة سياساته المتعلقة بالهجرة حتى يتجنب الزحف الجماعي لليائسين من أوضاعهم في دولهم الاصلية، وهو زحف لن توقفه جيوش مهما تطورت أسلحتها وكثرت الضحايا.

* العامل الثاني للهجرة هو طبيعة أنظمة الحكم في دول الجنوب؛ حكومات فاشلة ينخرها الفساد وتزوير إرادة شعوبها. مع ذلك تلقى هذه الأنظمة الدعم والحماية من الدول الغربية مقابل إبرام صفقات واتفاقيات مشبوهة لصالح هذه الدولة أو تلك، ويتم ذلك في الغالب تحت غطاء استبداد مفضوح أو ديمقراطيات مزيفة وفاسدة.

أخطر ما يحصل الآن هو رفض الديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان من قبل شعوب الجنوب، التي أصبحت لا تميز بين التعثرات المرتبطة بالمراحل الانتقالية في العديد من الدول وبين الديمقراطية كخيار استراتيجي يجب التمسك به. هذا الوضع أعطى مبررا للعسكر في ست دول أفريقية على الأقل إلى التمرد، ومحاولة فرض علاقات جديدة قائمة على خطاب يتمحور حول حماية السيادة الوطنية ضد الهيمنة الخارجية
إن أخطر ما يحصل الآن هو رفض الديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان من قبل شعوب الجنوب، التي أصبحت لا تميز بين التعثرات المرتبطة بالمراحل الانتقالية في العديد من الدول وبين الديمقراطية كخيار استراتيجي يجب التمسك به. هذا الوضع أعطى مبررا للعسكر في ست دول أفريقية على الأقل إلى التمرد، ومحاولة فرض علاقات جديدة قائمة على خطاب يتمحور حول حماية السيادة الوطنية ضد الهيمنة الخارجية في سعي إلى استعادة المبادرة وتحرير القرار الوطني. هذه الوضعية الجديدة جعلت كل ديمقراطي ومناضل من أجل الالتزام بحقوق الإنسان في دول الجنوب هذه يتهم بالعمالة للغرب، بحجة أنه يسوغ للغربيين حق التدخل في الشؤون الداخلية لبلاده.

هذا يعني أن من أهم ضحايا هذه المغالطات هي حركة حقوق الإنسان وعموم الديمقراطيين النزيهين، الذين أصبحوا عرضة للتهميش والإقصاء وحتى الاضطهاد من قبل حكوماتهم، وذلك بتأييد شعبي هذه المرة، وقد يُدفعون بدورهم إلى أن يصبحوا مهاجرين جددا وطالبي لجوء.

* ثالثا، الأزمات الكبرى التي تواجهها دول جنوب أوروبا بالخصوص. لقد دعا الرئيس ماكرون الفرنسيين إلى تضحيات جديدة بعد أن أعلمهم بأن عهد الرفاهية انتهى. الغرب لم يعد قادرا أن يفعل ما يريد، لقد استنفد وسائل الهيمنة التي كان يتمتع بها من قبل. موازين القوى في العالم آخذة في التبدل، انتهى النظام العالمي الأحادي، بعد أن أثبتت مبادرة بريكس أن الانتقال إلى تعدد الأقطاب أمر ممكن وحتمي. الحقبة الأمريكية تتراجع بشكل سريع رغم أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بأوراق مهمة ومؤثرة في السياسات العالمية.

لم يعد ممكنا إغلاق الحدود، مهما بلغ عدد البواخر والبوارج في المتوسط أو في بحور أخرى، فالعالم سيبقى مفتوحا على بعضه بالضرورة. دول الشمال في حاجة إلى المهاجرين لتحافظ على اقتصادياتها بل وعلى وجودها، منطق الاقتصاد يفرض عليها ذلك
* في هذا السياق لم يعد ممكنا إغلاق الحدود، مهما بلغ عدد البواخر والبوارج في المتوسط أو في بحور أخرى، فالعالم سيبقى مفتوحا على بعضه بالضرورة. دول الشمال في حاجة إلى المهاجرين لتحافظ على اقتصادياتها بل وعلى وجودها، منطق الاقتصاد يفرض عليها ذلك. تراجع الولادات في أوروبا، وعزوف الأجيال الجديدة عن الزواج، وتوسع نسب الشيخوخة، وظهور الجنس الثالث والرابع، كل هذه العوامل تفرض العمل على وضع سياسات جديدة لاستقبال المهاجرين وإدماجهم. لهذا اختارت ألمانيا التوجه نحو التصالح مع حركة التاريخ، هناك توجه في هذا البلد نحو إدراك بأن إدماج المهاجرين هو الاختيار الأفضل من شن الحرب عليهم كما تفعل إيطاليا وفرنسا وبقية حكومات أقصى اليمين. فبعد إدماج مليون سوري أصدرت ألمانيا قانونا جديدا ييسر منح الجنسية خلال ثلاث سنوات فقط من الإقامة، وهو إجراء مهم وشجاع.

أما المبادرة الثانية التي يجب ذكرها في سياق حسن التعامل مع ملف الهجرة بطريقة مختلفة فهي التي وصفها أندري ريكاردي بالدبلوماسية الموازية للفاتيكان، والتي تتمثل في الممرات الإنسانية التي أشرفت عليها منظمة سانت جيديو القريبة من الفاتيكان، والتي حاولت أن تضفي بعدا إنسانيا غائبا الآن على ملف المهاجرين، وسيبقى هذا الملف مفتوحا إلى أن تتغير موازين القوى، أو تتغير الثقافات والسياسات.
التعليقات (0)