قضايا وآراء

مسارات الردع البالستي لدول الخليج العربي

أورهان آقزاده
جيتي
جيتي
بدأ استخدام القذائف المُسَيَّرة والبالستية أول مرة بالتوازي مع أحداث الحرب العالمية الثانية من قبل ألمانيا التي عملت على تطوير القذيفة المُسَيَّرة (V1) والقذيفة البالستية (V2).

وإن أهم ما يُمَيِّز القذائف قدرتها على الوصول لأماكن قد يصعب على الطيران المأهول الوصول إليه وبتكلفة أقل، إضافة لعدم احتياج هذه القذائف لفترات تدريبية طويلة، وخبرات عالية في استخدامها، مما جعلها خياراً استراتيجياً لمعظم الجيوش النظامية، وغير النظامية. إضافة لذلك فإن القذائف البالستية لديها قدرة على الوصول لمسافات بعيدة، وقدرة على حمل الرؤوس النووية والكيميائية وغيرها من رؤوس الحرب الاستراتيجية، ومناعة ضد التشويش خلال السير نحو الهدف.

وهناك عامل مهم جداً يعطي القذائف البالستية أهمية أكثر، وهو أن أنظمة الدفاع ضد القذائف البالستية ما زالت فاعليتها دون المستوى المطلوب، وخاصة عندما يتم الحديث عن القذائف البالستية قصيرة المدى، وهذا ما تمت ملاحظته في حرب الخليج الأولى عند استخدام منظومة الباتريوت، وكذلك في الحرب الأخيرة على غزة وما عانته القبة الحديدية من ضعف وعدم القدرة على صد الهجمات البالستية من غزة؛ حيث إن الأنظمة التي تتعامل مع القذائف قصيرة المدى لا تملك وقتاً كافياً للتعامل مع القذائف لقصر المسافة، وضيق الوقت بين الإنذار واستجابة منظومة الدفاع، إضافة لصعوبة وجود ما يسمى الإنذار المبكر. هذا يجعل من السهل أن تصل هذه المنظومات الدفاعية إلى مرحلة الإشباع والتي تكون عندها فاعليتها صفرية. ويمكن إيصال المنظومة للإشباع بتكلفة بسيطة وخاصة عند الحديث عن القذائف البالستية قصيرة المدى، التي تكون رخيصة إذا ما قورنت بالقذائف المعترضة التي تطلقها منظومات الدفاع نفسها، حيث إن إطلاق وابل من هذه القذائف كافٍ لجعل المنظومة تخرج من الخدمة.

الآن لو تم وضع الخليج العربي على الخارطة البالستية، سنرى أن المنطقة محاطة بالتهديد البالستي القصير والمتوسط المدى من الجنوب، ومن الشمال الشرقي، والشمال الغربي، وهذا يتطلب من دول الخليج دراسة جميع خياراتها لردع أي هجوم بالستي محتمل من محيطها القريب والبعيد، وعند البحث في الخيارات المتاحة لا بد من استحضار بعض الخصائص المتعلقة بهذه المنطقة الاستراتيجية:

- التجانس العرقي والديني الكبير بين سكان المنطقة.

- المنطقة من أهم مصادر الطاقة العالمية.

- توَّفر الإمكانيات الذاتية للمنطقة التي تمكنها من الانطلاق بمشروعها الأمني، والدفاعي الوطني والإقليمي.

- دول المنطقة تمتلك من الإمكانيات التي تمكنها من بناء علاقات استراتيجية تكاملية مع بعض الدول من العالم الإسلامي.

- المنطقة مستهدفة من قبل المشاريع التوسعية الإقليمية، وهذه المشاريع تستخدم أذرعاً لها باتت تشكل ما يشبه الطوق لدول الخليج، ويتم تسليحها بأعداد كبيرة من القذائف البالستية، وتحديداً القصيرة المدى.

في إطار المعطيات السابقة فإن منطقة الخليج لديها عدة مسارات يمكن السير فيها معاً بالتوازي بشكل جزئي أو كلي، تمكنها من امتلاك منظومة رادعة لأي هجوم بالستي محتمل، ويمكن إدراج هذه المسارات كما يلي:

- المسار السياسي.

- حيازة منظومة دفاع ضد الصواريخ البالستية.

- بناء منظومة بالستية هجومية كقوة ردع.

بالنسبة للمسار الأول يمكن تحقيقه من خلال عدة وسائل:

أولاً- عقد اتفاقيات سلام دائم مع مصادر التهديد البالستي المحتمل، وهذا الأمر نوعاً ما سيكون وردياً، لأنه في العلاقات الدولية لا يوجد ما يسمى سلام دائم بين الدول، وقد يصطدم بجدار المصالح الاستراتيجية الذي عنده يمكن التحلل من أي اتفاقيات سلام، إضافة لوجود عائق آخر في هذا الخيار وهو أن بعض مصادر التهديد المحتمل لدول الخليج ليست جيوشاً نظامية، وبالتالي لا يمكن الوثوق في أي اتفاق معها (إن تم عقده أصلاً)، أيضاً كونُ هذه الجيوش عبارة عن أذرع لدول تقع ضمن قائمة التهديد البالستي المحتمل.

ثانياً- امتلاك أدوات أمنية ومخابراتية واقتصادية داخل حدود الدول البالستية المتوقع أن تكون مصدراً للتهديد، حيث إن شعور مصدر التهديد بأن الطرف الآخر لديه أوراق قوة ضاغطة وفاعلة داخل حدوده يمكن أن يستخدمها في حال حدوث أي هجوم عليه، سيجعله لا يفكر في هذا الخيار ويسعى للابتعاد عنه ما استطاع سبيلاً، فعلى سبيل المثال: وجود محور عسكري معين داخل جيش الخصم مقرب من دول الخليج، وجود مصادر أمنية موثوقة تستطيع التنبؤ بوجود ضربة بالستيىة قريبة، قوة اقتصادية لها وجود داخل حدود الخصم ومن الممكن أن تحدث هزة داخله، وجود جماعات بشرية ذات تقارب مذهبي أو عرقي مع دول الخليج يمكن الاستفادة منها في زعزعة أمن الخصم وغير ذلك؛ هذه الوسيلة بالنسبة لدول الخليج غير متحققة لأسباب قد يطول شرحها وتحليلها، ولو تم البدء بتهيئة هكذا وسيلة الآن، فلن تتحقق بين ليلة وضحاها وتحتاج لزمن طويل لتصبح جاهزةً للاستخدام.

ثالثاً- العمل على تكسير الأطواق المحيطة بالخليج بدءاً بالداخل قبل الخارج، حيث يتم العمل على هذا الأمر من خلال إحداث بعض التغييرات الديموغرافية المحسوبة والمنظمة في بعض المناطق، مستفيدة من بعض الأزمات الموجودة في المنطقة العربية.

أما المسار الثاني فهناك عدة عوامل يجب أخذها في الحسبان عند بناء هذه المنظومات ومنها:

أولاً- مدى التهديد البالستي المحتمل (قصير- متوسط- طويل)، حيث أن فاعلية منظومات الدفاع ضد الصواريخ البالستية لها ارتباط بمدى الصواريخ البالستية التي تتم الحماية منها، فعند الحديث عن الصواريخ قصيرة المدى فإن فاعلية المنظومات تكون منخفضة، ومن السهل على الخصم أن يقوم بإيصال منظومة الدفاع إلى حد الإشباع الذي تنعدم عنده الفاعلية وبأقل التكاليف، حيث إن تكلفة القذيفة المعترضة الواحدة قد تعادل تكلفة 10 إلى 50 مرة من تكلفة القذيفة البالستية نفسها، أضف أن فاعلية نظم الإنذار المبكر قليلة جداً لقصر المسافة.

وعند الحديث عن القذائف متوسطة وطويلة المدى فإننا نحتاج إلى محطات إنذار مبكر متموضعة في أماكن جغرافية قريبة إلى حدٍ ما من مصادر التهديد المحتمل.

وفي حالة دول الخليج قد يكون الأمر ليس في متناول اليد وخاصة لقرب مصادر التهديد المحتمل.

ثانياً- حجم الترسانة البالستية للتهديد المحتمل، حيث كلما كان حجم هذه الترسانة كبيراً كلما كان الاحتياج لعدد كبير من المعترضات ومحطات الإنذار المبكر، وهذا له صعوباته الفنية والمالية؛ وبالنظر لدول الخليج العربي يمكن ملاحظة أن حجم التهديد البالستي المحتمل كبير، وقد لا تنفع معه منظومات الدفاع، وتكون فاعليتها ضعيفة.

يمكن لدول الخليج من خلال عقد اتفاقيات مع الدول الكبرى تأمين حماية لأراضيها من الهجمات البالستية المحتملة من خلال استخدام منظومات الدفاع ومحطات الإنذار المبكر التابعة لتلك الدول، ولكن هذا الاحتمال ليس عملياً لاعتبارين هامين؛ أولهما أن تلك المنظومات كما ذكرنا سابقاً لا تملك الفاعلية الكافية، أضف أنها ستكون في حالة دول الخليج ضعيفة بحكم نوعية التهديد المحيط وقربه الجغرافي، وثانيهما أن أمن المنطقة سيكون خاضعاً لاعتبارات سياسية ومساومات غير مضمونة النتائج.

عند الحديث عن المسار الثالث فلا بد من النظر في عدة اعتبارات:

أولاً- مدى إمكانية التغلب على اعتراض المجتمع الدولي على نشوء قوة بالستية جديدة، ومعالجة هذا الأمر يقع على عاتق الدبلوماسية الخليجية القادرة بطريقة ما على تجاوز هذا الأمر، إضافة لاتباع السرية في تنفيذ هذا البرنامج.

ثانياً- مدى فاعلية هذه المنظومات في ردع أي هجوم بالستي، من المؤكد أن وجود ترسانة بالستية سيجعل العدو المحتمل يفكر كثيراً قبل تنفيذ أي اعتداء على دول الخليج وستكون هذه المنظومة رادعاً قوياً.

وعند التدقيق في جميع المسارات السابقة سنجد أن الحل الأمثل لبناء منظومة رادعة هو المضي في المسار الثالث كأولوية، بحيث يتم بناء منظومة بالستية هجومية مكونة من القذائف قصيرة ومتوسطة المدى بالدرجة الأولى بالتوازي مع العمل لامتلاك قذائف طويلة المدى وحتى عابرة للقارات بالدرجة الثانية؛ فهذا الخيار له من المزايا التي تجعل خيارات الخصم ضعيفة؛ ويمكن الاستفادة من الإمكانيات المادية والبشرية لدى دول الخليج للمضي في تبني برنامج تسلح بالستي، مستفيدة من بعض الدول في العالم الإسلامي والتي قطعت أو بدأت شوطاً في هذا المجال، وبناء علاقات تكاملية معها لإنجاح هذا البرنامج، وهناك بعض من دول الخليج العربي ربما أخذت خطوات في هذا الطريق إما بشكل مباشر، أو غير مباشر وهذا لا يكفي فلا بد من تنسيق الجهود، وتوحيدها، وتكاملها، تحت شعار وحدة المصير.

وعند الحديث عن سلوك المسار الثالث كأولوية لا يعني ذلك بالضرورة نفي المسارين الآخرين وإنما يتم سلوكهما بالتوازي كلياً أو جزئياً، حسب ما تقتضيه المصلحة، وهذا سيتيح لدول الخليج امتلاك منظومة ردع متكاملة ضد الصواريخ البالستية، وهذا سيكون له بطبيعة الحال انعكاساته على حضور دول الخليج إقليمياً وعالمياً، فيما لو تمت دراسته بشكل مستفيض لتحقيق أعلى فاعلية وموثوقية ممكنة لهذه المنظومة.
التعليقات (0)

خبر عاجل