مقالات مختارة

الحرب في السودان حلقة جديدة في الصراعات الإقليمية والدولية

بكر صدقي
ما ضاع في هذا الصراع الدموي هو أفق التحول الديمقراطي للسودان- جيتي
ما ضاع في هذا الصراع الدموي هو أفق التحول الديمقراطي للسودان- جيتي
حرب داخلية في السودان بين الجيش وقوات التدخل السريع.. وزير الخارجية السعودي يزور الأسد في دمشق.. تركيا تقصف مظلوم عبدي في السليمانية.. السلطات التونسية تعتقل راشد الغنوشي وتداهم مقر حركة النهضة الإسلامية.. صواريخ «مجهولة» تطلق من جنوب لبنان على إسرائيل.. تبادل أسرى بين الحكومة اليمنية ومليشيا الحوثي.. قصف متبادل بين مليشيات إيرانية والقوات الأمريكية في سوريا.. السعودية وإيران نحو تطبيع العلاقات.. وزير خارجية نظام بشار يتنقل برشاقة بين العواصم العربية.. قطر والكويت والمغرب ترفض عودة نظام بشار إلى جامعة الدول العربية.. الاستحقاقات السياسية معطلة في لبنان حتى إشعار آخر.. تركيا تستعد لانتخابات حاسمة.

هذه بعض عناوين الأحداث في هذه المنطقة المنكوبة من العالم في الأسابيع القليلة المنقضية وصولا إلى اليوم. وهي تشير إلى صراع متعدد الأشكال والمستويات والجهات بين القوى الإقليمية المقتدرة والفاعلة على مغانم لاكتساب مزيد من النفوذ الإقليمي، بانتظار توزيع الحصص عليهم في نظام إقليمي جديد يسعى إلى الاستقرار للعقود القادمة.

صحيح أن لكل صراع داخلي في كل بلد دينامياته الخاصة ولاعبيه المحليين ذوي المصالح المتباينة، لكن البعد الإقليمي لكل صراع داخلي واضح ومعروف أيضا، بحيث إن لكل لاعب محلي في الصراع ظهيرا أو أكثر إقليميا أو دوليا، وها هو الصراع العنيف على السلطة في السودان يبدو غير قابل للحل بسبب كثرة التدخلات الخارجية من مصر والإمارات والسعودية وروسيا، وربما غيرها من الدول أيضا، كحال إسرائيل مثلا. وبقدر ما يستمد كل فريق، البرهان وحميدتي، القوة من ظهرائهم الخارجيين، يشكل كل منهما أيضا نفوذا مستقبليا واعدا لظهيره الخارجي في السودان في حال انتصر أحدهما على الآخر. في حين أن ما ضاع في هذا الصراع الدموي هو أفق التحول الديمقراطي للسودان، الذي بشرت به ثورة العام 2018. القوى السياسية المدنية خرجت من اللعبة تماما، وخلا الميدان للفريقين العسكريين، وكلاهما معاد لأي تحول ديمقراطي.

ويستكمل نظام الدكتاتور التونسي قيس سعيد ما بدأه منذ عامين من انقلاب على التجربة الديمقراطية الفتية ومكتسبات الثورة الشعبية، من خلال قمع الأحزاب المعارضة وكم الأفواه، بعدما رسخ حكمه من خلال مهزلة انتخابات شبيهة بالـ «انتخابات» في الدولة الأسدية، ويلاقي دعما إقليميا من القوى المحافظة نفسها، التي دعمت انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، ويدعم بعضها في السودان طرفي الصراع العسكري، بعدما دعمت انقلاب الجيش ومعه «الدعم السريع» في 2021 لإنهاء تداعيات الثورة الشعبية.

وازداد زخم التطبيع مع نظام الأسد في الأشهر الأخيرة من قبل تلك الدول، التي لا تريد لسوريا أن تكرس ساحة تستفرد بها وتتنازع على أراضيها كل من إيران وتركيا، وتواصل فيها إسرائيل حربها على الوجود الإيراني. أما الاحتلال الروسي فتلك القوى الإقليمية تتفهمه وتتعاطى معه كأمر مسلم به، ليبقى التنافس بينها وبين إيران وتركيا، وينطبق التفهم ذاته على إسرائيل أيضا، التي تتصرف بحرية في الأجواء السورية.

أما إيران المأزومة داخليا بفعل ثورة الشعب منذ أيلول 2022، والمعرضة لحصار وعقوبات دولية قاسية، فقد بدأت تصعّد عسكريا ضد القوات الأمريكية في سوريا، على وقع استمرار النزاع الدولي حول أوكرانيا بين روسيا وخصومها الغربيين. وبالتوازي مع هذا التصعيد، فهي تشارك في الحرب الروسية على أوكرانيا بمسيّراتها، وتميل إلى تطبيع علاقاتها مع السعودية.

كل هذه التفاعلات؛ الدبلوماسية منها والحربية، نشأت من فراغ القوة الأمريكي الذي اتجه باهتمامه نحو تطويق الصين الصاعدة اقتصاديا وتكنولوجيا؛ باعتبارها «أكبر تهديد للمصالح القومية الأمريكية»، وفقا للعقيدة الجديدة للأمن القومي في عهد الرئيس جو بايدن. هذا الانسحاب من الشرق الأوسط الذي بدأ منذ عهد باراك أوباما، وانقطع نسبيا في عهد ترامب، دفع بدول الإقليم إلى البحث عن تحالفات دولية جديدة في وجه التحولات الاجتماعية العاصفة التي تهددها، بعدما أصابتها ثورات «الربيع العربي» بالهلع الشديد. صحيح أنها تمكنت من وأد آفاق التغيير الديمقراطي التي بشرت بها تلك الثورات، ولكن لا شيء يضمن عدم تكرارها ما دامت الأنظمة المعنية لم تتعظ منها لتغير من منهجها في الحكم ولو بصورة نسبية. فوجدت ضالتها في روسيا والصين، خصمي الولايات المتحدة فيما يوصف بالحرب الباردة الجديدة. صحيح أن الحركات الجهادية شكلت تحديا أمنيا لتلك الدول، لكنها تبقى خصما تسهل مواجهته في إطار العقيدة الدولية المسماة بالحرب على الإرهاب، ولن تشكل عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان في أعقاب الانسحاب الأمريكي المهين تهديدا جديا خارج أفغانستان المعزولة الغارقة في البؤس. ويبقى الخطر الأكبر هو الحركات الشعبية الكبرى كما رأينا في الثورات بموجتيها في العقد الماضي. لذلك تندفع تلك القوى الإقليمية نحو الصين وروسيا المحكومتين بنظامين دكتاتوريين راسخين كخيار عقلاني وحليفين «طبيعيين» يشبهانها.
لا يمكن التكهن لا بمآلات الصراع العسكري الساخن الدائر في السودان، ولا بما يمكن أن تستقر عليه الأمور في نظام شرق أوسطي جديد، ولكن، من المرجح أن يستمر الصراع على النفوذ الإقليمي بين القوى المتصارعة لسنوات طويلة قادمة، ما دام الصراع الدولي ساخنا بدوره بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وينبئ بالاستمرار مطولا بدوره. في صراع الفيلة هذا بين القوى الإقليمية والدولية والمحلية، الخاسر الأكبر هو شعوب منطقتنا التي يستمر نزيفها قتلا وإفقارا وتهجيرا واستعبادا.

(القدس العربي)
التعليقات (0)